عندهم نويل وعندنا ابن زايد

لم أكن أدري بأنّ شياطين الإنسِ بدورها لم تنم في تلكَ اللّيالي، أو ظننتهم فرّوا مخافَةَ أن يُقيّدوا، أو ربّما ظننتهم خرّوا ساجدين! ليتبيّن في نهاية الأمر أنهم مثلي كانوا يخططون.

لا أدري هل أنّ للأمر علاقة بفصل الشّتاء ولياليه الغاضبة والكئيبة، أم أنّني أصل الدّاء، ولعلّي أميل إلى التّفسير الثّاني خاصّة وأنّ من حولي لا ينفكّون يكرّرون على مسامعي تعليقاتهم المستفزّة بخصوص تشاؤمِيَ الدّائمِ في كلّ الفصول والأحوال، لكنّني كلّما دفعت الرّياح الباردة بالسّحب السّوداء لتحجب

ضوء القمر عن شوارعنا المظلمة وتحرّك ستائر نزار القباني، أجدُ نفسيَ دامِيَ القلب كأمّ عراقيّة تنعى طفلها.

وبما أنّه لا صديقة لي كتلك الّتي كتب لها الشّاعر المذكور أعلاه أبيات قصيدته “حقائب الدّموع والبكاء”، أجد نفسي جالسا في ركنٍ من أركان غرفتي، متّخذًا من الأرض الباردة مقعدا وبيدي قلم وأوراقْ، أُفكّر وقد رسمت على محياي ابتسامة ساخرة في ليلةٍ صرتُ أمقتها وأمقُت عقليَ السّاذج، أو ربّما هو قلبي الّذي تولّى مهمّة التّفكير آنذاك فخُيّل إليّ فيها أنّيَ أخيرا سأسترجع كلّ ما أخذوه منّي.. حتّى أنّي ولشدّة فرحي يومها حدّثتني نفسي قالت :”لا تكن حقودا يا هذا، كن حليما وأصفح عنهم”، فقلتُ بكلّ ثقة :”سأفكّر

بالأمر”.

عن ليلة الحرّية أتحدّث، أو ربّما هي ليالٍ، تلك الّتي فرّ فيها الطّغاة وسهرتُ أنتظر الصّباح، لأستردّ جيرانًا سرقوهم منّي ذات فجرٍ، على إثر وشايةٍ، وزجّوا بهم داخل معتقلٍ بعيدْ، ذنبهم أنّهم يقومون للّه قانتين ولذكره ساعين.. لأستردّ مدرسة أوصدَ أبوابها في وجهي زبانيَةُ نظام زين العابدين بن علي بعد أن كنتُ وأقاربي أوفى تلاميذها، نرتادها يومًا واحدًا كلّ أسبوع، لنجدَ داخل إحدى قاعاتها معلّمنا وقد تزيّن

بجلباب مزركشٍ ينتظرُنا والفرقان بين يديه، حتّى إذا ما اتّخذ كلّ منّا المقعد الخاصّ به ردّد على مسامعنا آياتٍ نردّدها تباعًا إلى أن نحفظها عن ظهر قلب.. لأستردّ كرامةً وحقّا في التّعبير ومناضلينَ وقاعاتِ سينما حوّل وجهتها لصوص الثّقافة، ونُهُجاً أغلقتْها سفارات أوربيّة، ومنابِرَ وجامعاتْ.. لأستردّ وطنًا فرّط فيه السّابقون.

سهرتُ تلك اللّيالي، كما كان يسهر نزار القبّاني ينظُم شعرا، أغنّي على ليلايَ وأُحصي ما سأستردّهُ غدًا، هذا محمّد البلتاجي سيعود إلينَا ليملأَ زئيره الأرجاء، وتلكَ ليبيَا ستُخَطّ على حيطانها كلماتُ عُمر المختارِ من جديد، وهذه مؤسّسة التلفزة الوطنيّة التّونسيّة سيسترجعها شعبُ تونس لتنطق ولأوّل مرّة بما يخالجُ صدوره، وها هيَ دمشقُ على خُطى أخواتها تصارعُ جاهدةً لتكسِرَ قيودا كبّلتها فحالت بينها وبين مواطنيها.

سهِرتُ أُفكّر بالجولان والأندلس، وعلى أنغام هتافات المصريّين على حدود غزّة أُخطّط للسّفر إلى الأقصى ومعانقةِ أوّل فلسطينيٍّ سيعترِضني.

لم أكن أدري بأنّ شياطين الإنسِ بدورها لم تنم في تلكَ اللّيالي، أو ظننتهم فرّوا مخافَةَ أن يُقيّدوا مثلما يُقيَّد إبليس في رمضان، أو ربّما ظننتهم خرّوا ساجدين! ليتبيّن في نهاية الأمر أنّهم مثلي كانوا يخطّطون، من على يُخوتٍ فاخِرَةٍ في كبد البحر يضعون لمسَاتٍ أخيرة ليحموا ما أحلّوا لأنفسهم بغيرِ ما أحلّ اللّه ولا

القانون من جاهٍ وسُلطةٍ وقنواتٍ تلفزيّة ومدنٍ وجزُرٍ ودُولٍ وبشر!! وهاهم اليومَ، وبعدَ أن نجحوا في إفشالي في استرجاع ما اختلسوه منّيَ ومن آبائيَ الأوّلين يقولون كما تقولُ جهنّم، هل من مزيد.

ها هم، وبعد أن حالوا بيني وبين محمّد البلتاجي، وأحكموا قبضتهم على طرابُلسَ ودمشق، وبعد أن أثبتوا زورا ملكيّتهم للقاهرة ولحدود مصر وفلسطين، ونشرُوا جنودهم المدجّجين بالأقلام والمصاديح في أرجاء مؤسّسة التّلفزة الوطنيّة التّونسيّة معلنين تواصل الاستعمار، ها هم يصرخون هل من مزيد، فسرقوا اليمن  أطفالها وشيّدوا على مزارعها وفي أحشاء صحاريها سجونًا ومعتقلاتْ.. ويقطرُ لعابهم على مشارف لبنان.

ولم يكفهم البلتاجي فاختطفوا روح أبنته وشباب ولده وضمّوا إليه باسم عودة، وهدّموا حيطان بلد المليون حافظٍ للقرآن، ربّما لكي لا أُفكّر ثانية في كتابة كلمات شيخ المجاهدين عليها، بل واحتلوا سماءها واستولوا على نِفطها وجيشها وسكّانها.

والآن، وقد أخذتهم العزّة بالإثم، تراهم، ببطون كتلك الّتي تحملها البحرين على كاهلها كيأجوج ومأجوج لو مرّ أحدهم بمدينة دمّروها عن بكرة أبيها، فيمرّ آخرهم ويقولون لقد كان بهذه المدينة حياة، يختطفون حجّاجا ووزراء ويسرقون جُزُرًا وأرواحًا لا تُحصى ولا تُعدّ.

ها اهم، بعد أن ظنَنْتُ بأنّيَ مسترّدٌّ أملاكِيَ، قرّروا معاقبتي أنا “الغلبان” العربيّ، بسبَبِ ليالٍ قليلة حلُمتُ فيها، وعقدوا العزم حتّى على سرقة أحلامي في أن أزور تركيا يومًا فحاولوا ولايزالون افتكاكها منّا وهي البلاد من بين البلدان القليلة الّتي مازال فيها روْحٌ من روحنا.. أو في أن أعمل يومًا ما بقناة الجزيرة فإذا بهم يطمحون إلى إخراسها ولربّما فكّروا في قصفها.. بل أكثر من ذلك، يصرخون اليوم بأنكر الأصوات، صوت فؤاد عبد الواحد، أن نُريد الدّوحة.

لا أدري هل أنّ للأمر علاقة بفصل الشّتاء ولياليه الغاضبة والكئيبة، أم أنّني أصل الدّاء، أم أنّ مصيبتي في آل نهيان وابن سلمان.. ولعلّي بعد كلّ هذا صرت أميل إلى التّفسير الثّالث.

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها