عمرو عبد الحافظ يكتب: النصر قريب ولكن

إن النصر قريب جدًّا يحلق فوق الرؤوس ينتظر كلمة “كن” فيكون، ولكنه بحاجة إلى أمة تعزم على التغيير واضحة رؤيتها، يحتاج إلى فئة تعزم عزمة الخلاص. يتبع

هل يمكن أن ينقل الله أمة من ذلة طال عهدها إلى عزٍّ ونصر وتمكين؟

وإذا كان ذلك ممكنًا فما الصفات التي ينبغي أن تتوفر في هذه الأمة التي تريد هذه النقلة؟

وهل ينبغي أن تتوفر كل هذه الصفات مجتمعة في جميع أفراد الأمة؛ أم يكفي أن تجتمع في فئة منها وإن قلَّ عددها؟

القرآن الكريم يحكي لنا في صفحتين متتاليتين من سورة البقرة قصة جيل من بني إسرائيل نقله الله عز وجل من مرحلة ذلة طال أمدها إلى مرحلة عزة وتمكين، هي الأبرز في حياة القوم الممتدة قرونًا في أعماق الزمن.

“ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبيّ لهم ابعث لنا ملكًا نقاتل في سبيل الله”.

أخيرًا وبعد طول عهد من الرضا بالذل والهوان، قرر بنو إسرائيل أن ينتفضوا ليغيروا ما بأنفسهم .. وهذه هي الصفة الأولى التي ينبغي أن تتحلى بها أيّ أمة تريد النصر بعد الذلة .. إنها الإرادة ورفض الذلة والعبودية والهوان.

ولكن نبيهم عليم بخبايا نفوس بني إسرائيل .. إنها أمة سافلة الطباع تنكبت الطريق وامتعضت من التكليفات .. وأمة هذا دأبها لا تؤتمن على تكاليف الجهاد “قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا”؟

فيجيب القوم “وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا “.. وهذه هي الصفة الثانية التي ينبغي أن تتحلى بها الأمة المنتفضة من الذلة إلى العزة، إنها وضوح الرؤية، أن تدرك أن هضم الحقوق يحتاج إلى ثورة، وأن الظلم ينبغي أن تواجهه قوة، وأن القمع ينبغي أن يكون له رد فعل، وأن دفع الظلم هو سبيل الله، وأن مواجهة البغي هو سبيل الله، وأن سبيل الله ليس فقط في مواجهة من يمنعونك من أداء الشعائر التعبدية، إنه كذلك في مواجهة من يريدون الهيمنة على أقدار الناس بغير حق وسيادتهم بغير العدل.

“فلما كتب عليهم القتال تولَّوا إلا قليلاً منهم والله عليم بالظالمين”.

إن ميدان القول غير ميدان العمل .. ولا يثبت في ميدان العمل إلا قلة من أولئك الذين يتشدقون بحماسة جوفاء.

غير أن الإعداد للمعركة لم يتوقف حينما تراجع أكثر القوم عند فرض القتال .. بل تتابعت الإعدادات والإجراءات .. لأنه لا يشترط أن يتحلى كل أفراد الأمة بكامل الصفات الواجبة لنيل التمكين، بل يكفي أن تتحلى بجميعها فئة ولو قلَّت.. على أن تتفرق بقية الصفات على السواد الأعظم من الأمة. حتى تصير الأمة بحسب اتصافها بهذه الصفات أشبه ببناء هرمي، كلما سمت الصفات قلَّ عدد المتصفين بها، مع بقاء القاعدة العريضة من الأمة متصفة بالحد الأدنى منها.

” وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكاً، قالوا أنَّى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يُؤتَ سعة من المال”.

قدَّم بنو إسرائيل سببين لرفض قيادة طالوت لهم ؛ فهو ليس من نسل أشرافهم، وهو فقير لا مال له، انظر إلى سفاهة القوم، ما دخل النسب والمال في قيادة معركة كهذه؟

هل سيقود طالوت بني إسرائيل بنسبه وماله ؟! هل سيخر العدو تحت قدميه صاغرًا حينما يصل إلى مسامعه أن قائد بني إسرائيل ذو نسب شريف ومال وفير ؟! بالطبع لا .. إن القيادة تحتاج إلى مؤهلات أخرى ليس من بينها النسب والمال.

“قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم”.

هذه إذن مؤهلات القيادة، العلم والمهارة والخبرة .. ثم لأنها معركة حربية فإنها تتطلب استعدادًا بدنيًّا وقتاليًّا خاصًّا.

وهكذا ينبغي للفئة التي تريد التمكين في كل عصر ومكان أن تتخلص من أدران أمتها المهزومة في اختيار القيادة على أساس الوجاهة الاجتماعية والعرض المالي، تلك الأدران التي بسببها وُسِّد الأمر إلى غير أهله فضاعت الأمانة وتخلفت الأمة.

بل ينبغي أن تنظر حينما تختار قيادة ما لموقع ما ؛ أن تنظر إلى طبيعة المهمة ثم الصفات التي ينبغي أن يتحلى بها صاحبها، ثم تنظر أي رجالها أقرب إلى الاتصاف بهذه الصفات فتقلده المنصب ولو كان عبدًا حبشيًّا لا دينار له ولا درهم.

تسلَّم طالوت قيادة الفئة القليلة التي توفرت فيها إرادة التغيير ووضوح الرؤية والعزم على العمل ونقاء التصور في اختيار القيادة، ولكن هذا لا يكفي، إن المعركة شاقة ولا يقدر عليها إلا أولو العزم من الرجال، ينبغي إذن أن يختبر أي رجاله قادر على تحمل المشقة.

“فلما فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده”.

وضع طالوت مقياسًا دقيقًا لاختبار القدرة على تحمل المشقة، وأخبر جنوده بحقيقة الاختبار ليكون كل واحد منهم على بينة من أمره.

” فشربوا منه إلا قليلًا منهم “

وهنا اتخذ طالوت القرار الحاسم في الوقت المناسب باستبعاد الكثرة التي أخفقت في الاختبار, لقد أدرك طالوت أن المعركة لا تتطلب عددًا كبيرًا بقدر ما تتطلب نوعية معينة من الرجال مهما كان عددهم قليلًا، إن القدرة على تحمل المشاق صفة لازمة للفئة التي تواجه الباطل بُغية الانتقال من الذلة إلى العزة .

” فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده “.

شريحة أخرى تتساقط على الطريق .. إنهم أولئك الذين تعظم في قلوبهم قوة عدوهم المادية .. ولو تفكروا قليلًا لأدركوا أنها سنة من سنن الله .. أن يستحوذ أهل الباطل على ما يفوق إمكانات أهل الحق .. ليتحقق الاختبار ويكتمل لئلا يسلك طريق أهل الحق إلا أولئك الذين يؤمنون بسموِّه في ذاته ويعملون له لذاته لا يبغون من عرض الدنيا شيئًا .. ينصرون الحق ولو كان الثمن نفوسهم التي هي ملك لخالقها في حقيقة الأمر.

تلك الفئة التي صاحت في ذلك الموقف الرهيب :” كم من فئة قليلة غلبة فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين “.

وكان آخر ما تفوهت به قُبيل اللقاء “ربنا أفرغ علينا صبرًا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين “.

فجاء الجواب ” فهزموهم بإذن الله”.

هكذا بهذه البساطة والسرعة ؟!! نعم، إن النصر قريب جدًّا يحلق فوق الرؤوس ينتظر كلمة ” كن ” فيكون، ولكنه بحاجة إلى أمة تعزم على التغيير واضحة رؤيتها .. يحتاج إلى فئة تعزم عزمة الخلاص، نقية التصور في تقديم الرجال وتأخيرهم.

يحتاج إلى فئة وإن قلَّت قادرة على تحمل مشاق الطريق، لا يعظم في وجدانها شيء سوى الله القادر على أن ينصر من يشاء وقتما يشاء كيفما يشاء.

عمرو عبد الحافظ
مدون وناشط سياسي مصري

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها