طلعت محمد يكتب: فوجئت بصديقي شهيداً وأنا أعالج المصابين

كانت الساعة تقارب السابعة والنصف صباح الرابع عشر من أغسطس بميدان رابعة العدوية حين كنت أقف إلى جوار صديقي أحمد والجو قد امتلأ بالغاز المسيل للدموع والدخان وصوت الرصاص والخرطوش. يتبع

ضحايا فض الاعتصام داخل المستشفى الميداني بمسجد رابعة

كانت الساعة تقارب السابعة والنصف صباح الرابع عشر من أغسطس بميدان رابعة العدوية حين كنت أقف إلى جوار صديقي أحمد والجو قد امتلأ بالغاز المسيل للدموع والدخان وصوت الرصاص والخرطوش يأتينا من كل مكان وفجأة سقط بجواري أحد الجرحى بإصابة خرطوش في رأسه حملناه مسرعين إلى المستشفى الميداني وحينها عاد صديقي أحمد للميدان بينما واصلت طريقي للمستشفى الميداني برفقة المصاب الذي لا أعرفه ومن يومها لم ألتق أحمد الذي أعتقل بعدها بوقت قليل ولا يزال.

دخلنا المستشفى الميداني التي تم تجهيزها داخل المركز الإعلامي نظراً لكثرة الجرحى في ذلك الوقت, وبينما أنا في طريقي للخروج وقف أحدهم قائلاً: (من لديه خبرة في الإسعافات الاولية أو الطب ينضم لنا) فذهبت إلى القائمين على المستشفى قائلا: (أنا طبيب أسنان ولي خبرة بالإسعافات والطوارئ ويمكنني المساعدة) وبقيت معظم اليوم داخل المستشفى الميداني, وياليتني ما فعلت!

مشهد صعب وأليم كنت أراه على التلفاز قديماً وعلى موقع اليوتيوب لتلك الطفلة الفلسطينية التي يحملها أبوها وهي تعاني من آثار الاختناق بالغاز وتستمر الطفلة في الاختناق والمعاناة حتى يوافيها الأجل…كنت كلما رأيت ذلك المشهد لعنت اليهود وقسوتهم التي لم ترحم حتى الأطفال ولكن حين رأيت ذلك الأب يحمل طفله الصغير بالمستشفى الميداني وقد وضعوا له جهاز تنفس ليخففوا آثار اختناق الطفل من الغازات والدخان تذكرت ذلك الفلسطيني ولكن لم أدري من ألعن؟!! ..مشهد قاسٍ ومؤلم ولا أدري أكان المشهد الأشد قسوة ولكن كان هناك من القسوة الكثير.

انضممت للفريق الطبي وانهمكت في العمل حتى دخل الشباب يحملون جثمان شاب في النصف الثاني من العشرينات ومن بعيد أحسست أن المحمول على الأعناق شخص مألوف لي …بخطى رتيبة ذهبت لأشاهد الشهيد لتوه ركب شهداء لا ينتهي .. وكانت الفاجعة, إنه عبد الرحمن …الصاحب والزميل والأخ الملائكي …الشاب الثوري الذي لم تفقده ميادين الثورة يوماً ما حتى وإن اختلف مع روادها … إنه الحبيب عبدالرحمن خالد الديب … قبلته وودعته ثم سجيناه وأعطيناه مكانه بين إخوانه من الشهداء الأبرار ولاحت بمخيلتي كلماته على حسابه على فيس بوك لأخيه محمد معاهداً إياه أن من يفوز بالشهادة منهما أولاً يشفع للآخر.

يا الله ..حقاً الشهادة تختار أهلها كما قالت لي الدكتورة التي كنت أعمل معها في المستشفى وهي جراحة ماهرة لا تنتمي للإخوان ولكنها لما رأت المشاهد الأولية للفض نزلت مسرعة لتؤدي واجبها كطبيبة في وقت فقد فيه الكثيرون حتى واجبهم الإنساني.

استمر اليوم ما بين دماء ورصاصات اخترقت صدور ورؤوس وجباه وأرجل…قل ما شئت ..أعتقد أن كل أنواع الإصابات شاهدتها ذلك اليوم وما أكثر الإصابات في الرؤوس ..إنها قتل متعمد لاريب …أذكر حين رأيت للمرة الأولى جمجمة قد خرج منها رأس صاحبها وتناثرت أجزاء من المخ داخل خوذته والتي كانت للمصدر الذي يصدر من أعلى منصة رابعة… ولا انسى ذلك الشيخ العجوز الذي كان لحم مخه قد خرج من رأسه وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة والشباب يلقنونه الشهادة وهو يلفظها ويرددها حتى فاضت روحه.. مشهد قاسٍ حين ترى خروج روح أمام ناظريك والأقسى أن يتكرر ذلك أمامك عشرات المرات في ساعات معدودة …كان أحدهم يجلس مستنداً على الحائط وإصابته قد فجرت أوردة الفخذ واستمر ينزف طويلا وبقعة الدم حوله تزداد حتى أتيناه فوجدناه قد مات على هيئته.

في تلك الأثناء العصيبة كانت قيادات الاعتصام تزورنا من آن لآخر تبث الروح وتربط على قلوبنا حتى نستطيع مواصلة العمل…أذكر منهم د.جمال عبدالهادي ود.صلاح سلطان ود.جمال عبدالستار والشيخ سلامة عبد القوي وكان أقواهم تأثيراً في النفوس الصامد الصابر د.محمد البلتاجي والذي رأيته مرات عديدة يذهب ويجيئ ليثبت الأطباء والمصابين وأهالي الشهداء ومن شدة ثباته لم نعرف أن ابنته الوحيدة أسماء استشهدت إلا بعدها بساعات.

 

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها