طارق حسام الدين يكتب: مجرزة رمسيس الثانية

في الطريق إلى ميدان رمسيس لم تكن روح المسيرة كسابقاتها، شهود مجزرة الفض مثخنين بجراحهم، ليست جروحا جسدية على الأغلب، لكن جروح الروح أشد ألما، وخرج الجميع رغم كل شيء. يتبع

طارق حسام الدين

صباح يوم الجمعة السادس عشر من أغسطس آب عام 2013 كانت منطقة وسط القاهرة شبه خالية، المحال التجارية مغلقة، ولا وجود للباعة الجائلين، الشوارع تخلوا من المارة إلا من بعض المتوجهين لأداء صلاة الجمعة، تلك المنطقة التي كانت أشبه بثكنة عسكرية في الأيام القليلة السابقة,  خلت في تلك الساعات من فرد أمن واحد، لا أتذكر فعلا أنى شاهدت أي فرد أمن في تلك الساعات من ذلك اليوم، كنت حينها متوجها لأداء صلاة الجمعة بأحد المساجد القريبة من ميدان العتبة، على موعد بخروج مسيرة عقب الصلاة من المسجد.

الهواء معبق برائحة الدماء، آثار الحريق لم تختف بعد من ميداني رابعة والنهضة، ونيران الحريق لم تخمد داخل قلوب من تبقى من بشر في هذه البلدة، تستطيع بدون أي مجهود أن ترى الغيرة على وجوه الراضين والفرحين بالدماء من أجل اللاشيء  كما تستطيع أن ترى آثار الحزن تصارع ملامح الإصرار على وجوه من تبقى في قلوبهم مثقال ذرة من إنسانية، إصرار على مواصلة طريق أولئك الذين لم تجف دمائهم بعد، إصرار على أنه لا تسليم ولا استسلام أولئك المجرمين مهما بلغ فجورهم

لا أستطيع أن أصف شعوري جليا في هذا اليوم، لكنى لم أكن آبه لأي شيء ظاهريا كنت نازلا للموت، داخليا أعتقد أنى لم أكن مستعدا بالقدر الكافي، لكنى كنت متوقعة كما كنت متوقعا أي شيء   تخيلت أنه سيتم الإمساك بي في طريقي للمسجد بوسط البلد، وقبل دخولي المسجد تخيلت أنه سيتم القبض علينا جميعا داخل المسجد، أو قتلنا، وقبل خروجنا تخيلت أنني سأجد بالخارج أمام المسجد أعدادا لا حصر لها من القوات والمدرعات، يطلقون علينا النيران فيقتلون من يقتلون ويعتقلون من يتبقى، لكن أيا من ذلك لم يحدث. 

يخشى ضباط وعساكر السجون ذلك المحكوم عليه بالإعدام ويصنعون له ألف حساب، فذلك الذى يعرف مصيره هل يخشى أو يأبه لأحد ؟ هل سيعدمونه مرتين؟ هي ميتة واحدة، خرجنا بالمسيرة عقب صلاة الجمعة من مسجد ليس بالكبير لكن العدد لم يكن قليلا، لا أمن ولا آليات ولا مدرعات، لا شيء، خرجنا ولم يعترضنا أحد، فقط نهتف ولا نملك سوى الهتاف، شوارع فارغة لا يعترضنا فيها أحد، حتى النوافذ كان معظمها مغلق، لا أحد يتكلم، لا أحد يرفع يده، لا صوت يعلو في وسط القاهرة فوق صوت هتاف المسيرة، تلك المسيرة التي خرجت تطلب الموت في بلدة لا تقدر الأحياء.

فى الطريق إلى ميدان رمسيس لم تكن روح المسيرة كسابقاتها، شهود مجزرة الفض مثخنين بجراحهم، ليست جروحا جسدية على الأغلب، لكن جروح الروح أشد ألما، وخرج الجميع رغم كل شيء استجابوا لنداء الحق من بعد ما أصابهم القرح، خرجوا وهم يعلمون ما أعد لهم المجرمون، فلم يزدهم ذلك إلا إيمانا، وعلا صوت الهتاف فوق كل تهديد، حسبنا الله ونعم الوكيل.

لا أدرى أكان فخا بالأصل، أم أنهم لم يتخيلوا أن تخرج كل هذه الأعداد بعدما ساموهم قتلا وحرقا بمجزرة الفض ؟!، لعله كان الأثنين، وصلت المسيرة إلى ميدان رمسيس ففوجئنا بالميدان ممتلئا عن آخره، استقبلنا من سبقونا على أطراف الميدان، ومن كثرة العدد تخيلنا أنه لم يعد لنا مكان بالميدان، قابلت نفس وجوه رابعة، لكنها كانت متغيرة، يظهر عليها آثار المجزرة، لكنها كانت حاضرة، لا سلام ولا كلام ولا حتى تبادل نظرات، وجوه شاحبة، وشباب ظهر عليه آثار الشيب من هول ما رأى، قابلت وجوها أكاد أجزم أنها تنزل الميدان لأول مرة، حركتها الدماء التي سالت برابعة والنهضة، أعداد كبيرة من غير الإخوان، من ألتراس وحركة أحرار، تجمعات وتوجهات مختلفة، نزلوا أفرادا ومجتمعين، وما زالت المسيرات تتوالى على الميدان من كل أنحاء القاهرة.

لم تمض سوى بضع دقائق حتى انتهت أجواء التجمعات والهتافات لتبدأ أجواء المجزرة، كانت القاهرة على موعد مع مجزرة جديدة من مجازر جنرال الجيش المنقلب، لم يشبع بعد من الدماء، ومن الواضح أنه لن يشبع أبدا، ما زالت الأرض على مقدرة من استقبال المزيد من الدماء المسالة هدرا، ما زال ضباط وجنود الانقلاب على استعداد لإطلاق المزيد من الرصاص نحو أجساد المتظاهرين بلا حساب، ما زال عند مسوخ الشعب سعة من الفرح والرقص على دمائنا، ونحن ما عاد لنا في هذا اليوم مزيد حسابات للدنيا بتفاصيلها، الرسالة واضحة: أطلقوا مزيدا من الرصاص فدماؤنا ليست أغلى عندنا مما سفكتموه.

كانت البداية من أمام قسم الأزبكية، وأول ما وصلنا للميدان كانت قنابل الغاز المسيل للدموع، تلك القنابل القميئة التي لم تثننا يوما عن طلب الحرية، لم تمض لحظات إلا وتوالت الإصابات بالخرطوش والرصاص الحى، بدأ نزيف الدم، تحول مسجد الفتح فورا إلى مستشفى ميداني، وبدأ في طلب الأطباء والمتطوعين ومستلزمات الطوارئ، دقائق وظهرت طائرات الهليكوبتر بقناصيها يستهدفون رؤوس المتظاهرين، الأن يعيش الجميع أجواء المجزرة، ننتظر رصاصة من أي اتجاه، لكن الرصاصات تختار أصحابها، ثم ….. مشاهد قتل، مشاهد قتل كثيرة، وإصابات أكثر، تستطيع مشاهدتها مسجلة على اليوتيوب، أو مشاهدة صورها من أي مكان، أو يكفيك أن تتابع الأخبار اليومية في مصر، فمشاهد القتل والمجازر المكررة لم تنته من يومها.

جثث المتظاهرين داخل مسجد الفتح برمسيس

كنت في ذلك اليوم – على عكس كثيرين – قد أيقنت سابقا أننا بلا ثمن عند سارقي هذا البلد، كثيرون لم يدركوا ذلك سوى في هذا اليوم، أنتم لا شيء، أعداد من الجثث تلقى في المشارح أو على الطرق أو تحرق بنهاية كل مجزرة، أنتم بلا ثمن، بلا أي ثمن، تقتلون بلا أي حساب، بل تقتلون ويكافأ القاتل، لكنى لم أتفاجأ أبدا، فقد كنت على يقين بأنى على موعد مع مجزرة.

جاء الأمر بالانسحاب – كالعادة – بدون أي تخطيط ولا ترتيب لكيفية تأمين خروج المصابين وجثامين الشهداء ومرافقيهم داخل مسجد الفتح، كنا عقب صلاة العصر وما زالت المسيرات تأتى تجاه الميدان من كل اتجاه، ولكنا انسحبنا انسحاب العاجز قليل الحيلة، على وعد وتأكيد من المنظمين بتأمين خروج المصابين والجثامين، وهو ما لم يحدث.

انسحب الجميع مرغما تحت تأثير زخات الرصاص الحى وقنابل الغاز ما عدا من كان داخل المسجد، وتمت السيطرة في نهاية اليوم على الميدان من قبل قوات الانقلاب ومحاصرة مسجد الفتح بمن داخله، وظل الحصار حتى صباح اليوم التالي عندما عدت إلى الميدان لكنى لم أستطع الاقتراب، لم أستطع سوى مشاهدتهم من بعيد وهم يعتقلون كل من كان بالمسجد، والذين ما زالوا قيد الاعتقال حتى كتابة هذه السطور، من بينهم صديقي الطبيب إبراهيم اليماني الذى بدأ إضرابا على الطعام بعد اعتقاله بعدة أشهر وما زال مضربا حتى الأن.

 

 طارق حسام الدين
طبيب

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها