سماح إبراهيم تكتب: فقط بمصر.. “الفيش” كلابي والخدمة بالأقسام

طلب مني نزع حذائي والشراب. اعتقدت أني أخطأت السمع وطالبته بتكرار الجملة للتأكد من صحة ما يريد! فقال لي بوضوح: قلت لك اقلعي الشراب.. نريد قدمك للفيش! يتبع

 

ودعت رفقاء الحبس السياسي، وجنائيات عنبرنا بما فيهن كبيرتهن “أمي ناصرة”  صباح يوم السابع عشر من يوليو 2014 م, بمعانقات ووصايا بنصيب من دعاء لهن بأن ترى أعينهن “الأسفلت”. لم يخلق على الأرض من هو أسعد منا اليوم, بفرحة مكتومة نتسائل عن كيفية استقبال أجسادنا المجمدة حركتها لاستئناف عملها دون أن يجرها شرطي لا يكف عن اللعن! لن تخنق أذرعتنا بعد اليوم كلابشات الداخلية! لن نصحو علي حملات تأديب صباحية لتعريتنا! لحظات ونرحل عن إذلال السجانات وظلمة قبور الزنازين. سعادة مقهورة الإحساس, لن يشعر بثقلها إلا من عايشها.

انتظرنا الزيارات لحين إنهاء إدارة السجن لإجراءات الخروج, وتسوية الحسابات المالية الخاصة بنا بغرفة الأمانات وكافيتريا السجن والتنازل عنها للمعتقلات بالداخل, ومن عربة الترحيلات لقسم شرطة الساحل, حيث الاستقبال التكديري من رجال شرطة النظام ومن يعاونوهم, أعطونا أوامرهم  بافتراش بئر سلالم القسم, ثم تتابع علينا رجال الأمن لتوبيخنا وافتعال مشادات كلامية, حتي اصطحبنا أحدهم للصعود بالدور الثاني لإتمام ملفنا الجنائي والذي يحمل أعلاه عنوان “مسجل خطر”.

أعطاني أحدهم  لوحة سبورية كتب عليها اسمي الرباعي ورقم القضية, وبخط عريض وضع اسم  جماعة “الإخوان المسلمين”, رفضت حمل اللوحة وشددت على أن تهمتي لم تكن سوى “ممارسة عمل صحفي”, بضجر مسح جملة الإخوان ليستبدلها بـ”تظاهر”! ثم طلب مني نزع حذائي والشراب.

أعطونا أوامرهم  بافتراش بئر سلالم القسم, ثم تتابع علينا رجال الأمن لتوبيخنا وافتعال مشادات كلامية, حتي اصطحبنا أحدهم للصعود بالدور الثاني لإتمام ملفنا الجنائي والذي يحمل أعلاه عنوان “مسجل خطر”.

اعتقدت أني أخطأت السمع وطالبته بتكرار الجملة للتأكد من صحة ما يريد!

فقال لي بوضوح: قلت لك اقلعي الشراب.. نريد قدمك للفيش!

أجبته: لم أسمع عن الفيش الكلابي إلا منك.

ورغم أن المشهد باطنه مأساوي، إلا أن ظاهره حمل من الغباء المضحك ما جعل أحد الموظفين بقاعدة بيانات الجنائيين يدخل في نوبة من الضحك ليتخلى عن مهنته لثوان ويقترب نحونا ليحدثنا عن تلك الإجراءات السمجة التي يتعرض لها صاحب الملف الجنائي، وإهانته بالمكوث لساعات طويلة تحت المكاتب بوضع القرفصاء والتناوب عليه بحملات تكدير تصل لحد التشويه, وللتهوين علينا قال: أعلم أنكم لستم مثل هؤلاء ولكنها الإجراءات، وأعتقد أن التعامل معكن سيكون مختلفاً!

تم الفيش. وعاودنا الجلوس تحت سلالم القسم  في انتظار قرار الخروج حتى مغرب اليوم, توافد الأهالي وبحوزتهم وجبات الإفطار, وأخبرونا أن الإجراءات لم تنته بعد, وأن غداَ سيتم ترحيلنا مرة أخرى لمحكمة العباسية لتقسيط الغرامة والمقدرة بـ50 ألف جنيه, وأننا “رهينة” لحين إشعار آخر مشروط بالدفع.

صدرت أوامر أمنية بترحيلنا بالمساء لقسم روض الفرج للمبيت حتى صباح الغد, حيث تم إيداعنا بحجز الجنائيات, وكعادتي لم أصمد أمام استفزازات “كبيرتهم” وهي تقبح من حولها وتستعرض قوتها الجسدية بألفاظ ساقطة للسيطرة على زميلاتها من الجنائيات بالداخل.

لم أهتم بهن, أو أقوم بوظيفة النفاق الاجتماعي مثلما فعلت الأخريات بالذهاب إليها للتعريف بهن, الأمر الذي دفع “الكبيرة” بأن تسن لسانها لتتحدث عني بالسوء كطريقة متعارف عليها نسائياً لتجعلهن يضحكن مني فتشعر هي وقتها بنشوة الانتصار الكيدي.

لم أعطها الفرصة, فلم تنته من جملتها التي قالت فيها وهي تضحك: ومالها دي شايفة نفسها كده ليه! إلا ووجدتني نحو سريرها وصوتي يعلو: بقولك ايه ياست انتي ابعدي عني كده بالذوق، والأساليب دي تعمليها علي غيري.   

وكأني استدعيت بكلماتي “مارد” تمثل بجسدها, هبت من فوق سريرها وظلت تلوح بيدها متوعدة لي بتشويه وجهي, ظلت تطرق على باب الزنزانة وتضرب بالأِشياء من حولها لإخراج شحنة الغضب التي لبستها, فيما وقفت الجنائيات وسجينات الحبس السياسي للتحجيز بيني وبينها حتى ذهبوا بي بعيداً عنها.

ويبدو أنهن بالفعل مريضات, وأن من يعاركهن يحظى بمكانة “عدم المساس” والانبهار الجنائي, ظلت تتابعني وأنا اتحدث إلى أحد الجنائيات التي تقربت نحوي لتحكي لي معاناتها, ولم تتعرض لي بمكروه وهي تحاول لفت الأنظار إليها بافتعال عراك مع الآخرين حتي أغلقت الأنوار لتعلن عن نوم إجباري.

نظام الخدمة في الاقسام -وهو لمن لا يعرف-  أن يتم توظيفنا كخادمين في القسم التابع لمنطقة السكن لمدة 8 ساعات كل يوم

في الصباح ذهبنا لمحكمة العباسية لإتمام الإجراءات ثم عدنا لقسم الساحل ومنه لقسم الزاوية الحمراء, هناك علمنا أن السلطات القضائية اشترطت بأن يتم دفع الغرامة دفعة واحدة أو الخضوع لاعتماد نظام الخدمة في الاقسام -وهو لمن لا يعرف-  أن يتم توظيفنا كخادمين في القسم التابع لمنطقة السكن لمدة 8 ساعات كل يوم، أو دفع مبلغ 300 جنيه في الأسبوع لمدة 3 شهور.

صرخت بوجه المحامي والمعتقلات اللاتي أبدين موافقتهن بمجرد التفكير بقبول فكرة الخدمة بالأقسام, كدت أصاب بالجنون من موقفهن وأنا أردد: “والله عال أوي، أسيب شغل الصحافة وآجي أمسح أرضيات الأقسام والحمامات، أي عقل يقبل بهذا”.

قالت لي إحداهن بعتاب: تفتكري لو معاكي فلوس تدفعي، احنا هنجيب منين 50 ألف جنيه!

زادت حدة صوتي: إحنا خرجنا عشان رافضين الذل!

“مش هوافق على نظام الخدمة، سامعين”, كررتها مرات بعصبية مفرطة, وهن يحاولن تهدئتي, 3 معتقلات بقسم الشرابية وافقن على العمل بالخدمة وأعطى رجال الأمن أوامرهم بتسريحهن لبيوتهن, وظل بقسم الزاوية  المعتقلة “منى عبد الرحمن وزوجها المهندس محمد عبد الله, و مروة أبو ضيف وأنا رابعتهم”. 

مبيت جديد بقسم الزاوية حتى صباح يوم آخر, افترشنا أسفل مكاتب أمناء الشرطة, لعدم وجود حجز نسائي بالقسم, والمجرمون يتوافدون, وأمناء الشرطة يحررون المحاضر, ونحن نتابع في صمت وقهر شكاوى عن قتل وسرقة, هاربين بأعيننا عن نظرات الدونية والفضول من حولنا, في الوقت ذاته كان المحامون قد توجهوا لمحكمة العباسية مرة أخرى بغرض تقديم بحث حالة يفيد عدم استطاعتنا المالية في دفع المبالغ جملة واحدة.

 

صحفية مصرية

 

تجدر الإشارة إلى أن كل ما ورد في المقال يعكس رأي الكاتب الخاص ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع  .

 

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها