سد النهضة ومنظومة الأسلحة السمكية!!

تصريح كامل الوزير إن دل على شيء فإنما يدل على أن العسكر في مصر بدأوا في محاولة إيجاد البدائل وأنهم سلموا بالأمر الواقع.

ينص القسم الذي يقوم بأدائه ضباط القوات المسلحة المصرية عند تخرجهم على الدفاع عن مصر وأمنها وحدودها براً وبحراً وجواً، داخل وخارج الجمهورية وألا يقوموا بالتخلي عن سلاحهم حتى يذوقوا الموت دونه وظل هذا القسم معمولاً به منذ قيام الجمهورية في 18 يونيو/حزيران 1953، حتى قام الرئيس المؤقت بعد انقلاب 3 يوليو/تموز 2013 “عدلي منصور” بتعديله في 28 أغسطس/آب2013 بالقرار رقم 562 لسنة 2013 ونص على حذف عبارة “وأكون مخلصاً لرئيس الجمهورية” وجرى استبدالها بأن أكون مخلصاً للأوامر العسكرية ومطيعاً لقادتي في خطوة بدا وقتها واضحاً حرص قائد الانقلاب العسكري ووزير الدفاع حينها “عبد الفتاح السيسي” على إحكام قبضته على القوات المسلحة بحيث يصبح تلقيها للأوامر خاضعا كلياً للقيادة العسكرية دون السياسية.

في 23 مارس/آذار 2015 قام قائد الانقلاب العسكري عبد الفتاح السيسي والرئيس السوداني عمر البشير ورئيس الوزراء الأثيوبي هايلي ماريام ديسالين بتوقيع اتفاق مبادئ سد النهضة في العاصمة السودانية الخرطوم”، والتي تحول على أثرها مشروع سد النهضة إلى مشروع قانوني لا غبار عليه وخرج علينا إعلام السيسي مهللاً مكبراً ولم يكن ينقص المشهد إلا إطلاق الزغاريد وإقامة الأفراح والليالي الملاح والتبخير وإلقاء التعاويذ لمنع الحسد،  فالجنرال الهمام ذو الخلفية العسكرية قد حلها وكان المانشيت الرئيس لكل الصحف وبالبنط العريض ذا اللون الأحمر “السيسي حلها” مترافقاً مع صورة “الكيلو بامية” الشهيرة وظهر فيها السيسي أكثر الناس سعادة وأوسعهم ابتسامة، وكان التساؤل الأهم والمُلِح حينها كيف تم حلها وما هي بنود الاتفاقية ومراحل بناء السد وسعته وسنوات ملء خزانه وما هو وضع حصة مصر المنصوص عليها في كل المعاهدات والاتفاقيات السابقة، وأهمها اتفاقيتا 1929 و1959 والمحددتان لحصة مصر والسودان من مياه النيل والملزمتان لدول المنبع بعدم إقامة أي مشاريع أو سدود أو إنشاءات قد تؤثر على انسياب المياه لدول المصب، تلك التساؤلات لم يجد الشعب الإجابة عليها فلقد تصرف السيسي وكأنه الوصي على الشعب المصري القاصر من وجهة نظر طبيب الفلاسفة والمصنفة دولته ضمن دول “الفقر المائي“.

ست جولات يا مؤمن يخرج بعدها وزير الري الدكتور محمد عبد العاطي ليعلن عن فشل مفاوضات سد النهضة الفاشلة من الأصل بل أكاد أجزم أن الجانب السيساوي “المصري” قد خطط مسبقاً لإفشالها فقد وقع السيسي وأصبح السد أمرا حتميا ويتوقع أن يتم الانتهاء من أعمال تشييده خلال العام القادم 2018، ولقد سبق وصرح وزير الري الأسبق الدكتور محمود أبو زيد في 16 أكتوبر/تشرين أول 2014 وقال نصاً: إن هناك استهتارًا من قبل الدولة في التعامل مع ملف إثيوبيا، وإن اللجنة الثلاثية التي تم تشكيلها بين مصر وإثيوبيا “ليس لها قيمة”، طالما أن إثيوبيا مستمرة في بناء السد، قالها الرجل مباشرة بدون لف ولا دوران، أي أن الأمر قد حسم والسد سيقام والعطش قادم لا محالة، ولمن يعتقد أن في هذا شيء من المبالغة فليعلم أن مصر تستهلك 55.5 مليار متر مكعب من مياه النيل وهي حصة مصر من النهر، و1.5مليار متر مكعب من مياه المطر، و6 مليارات متر مكعب من المياه الجوفية، وإعادة استخدام مياه الصرف 6 مليارات، حصة مصر من مياه النيل ستنخفض على مرحلتين، اﻷولى أثناء التخزين وملء خزان سد النهضة، وستنخفض مرة أخرى بعد تشغيل السد، بحيث ستنقص من 5 إلى 20 مليار متر مكعب، كما أن كمية المياه التي ستصل لمصر ستنخفض على أساس الفترة الزمنية التي سيتم خلالها ملء الخزان، وهو ما سيكون له أثر كبير وكارثي على الأراضي الزراعية ومياه الشرب.

لكن القائد الهمام وحامي الحمى قد وقع على الاتفاقية وقضي الأمر ومن لا يعجبه فليشرب من البحر ويبدو أن المثل الشعبي الدارج والمستخدم في مصر للتعبير عن عدم الاكتراث لرد فعل الأخرين وغضبهم، سيتم تطبيقه على أرض الواقع فلقد أعلنت الهيئة الهندسية للقوات المسلحة الأسبوع الماضي على لسان اللواء كامل الوزير رئيس الهيئة عن إقامة أكبر محطة تحلية لمياه البحر في العالم في منطقة العين السخنة و3 محطات عملاقة أخرى في الجلالة والعلمين الجديدة وشرق بورسعيد، وإن نقصت حصة مصر من مياه النيل فلكم منا الويل والثبور وعظائم الأمور فالجيش قادر على بناء المزيد والمزيد من محطات التحلية، “ومن لا تعجبه مياه البحر المحلاة  فليشرب من مياه “إيفيان”، على وزن الجملة الشهيرة التي ذكرها “جان جاك روسو” في كتابه الاعتراف “إذا لم يجد الفقراء خبزاً فدعهم يأكلون كعكاً” ونسبت المقولة لماري انطوانيت أخر ملكات فرنسا التي لا يعنيني من قصتها شيئاً إلا نهايتها المروعة عندما أعدمها الشعب الفرنسي الثائر على المقصلة في باريس إبان الثورة الفرنسية في 16 أكتوبر/تشرين أول سنة1793م.

تصريح كامل الوزير إن دل على شيء فإنما يدل على أن العسكر في مصر بدأوا في محاولة إيجاد البدائل وأنهم سلموا بالأمر الواقع، وأن خيار التدخل العسكري لتوجيه ضربة لجسم السد وإنهاء الخطر وهو أحد حلين ممكنين لتفادي غرق مصر في نهر العطش أما الثاني فهو رفض البرلمان لتلك الاتفاقية وبالتالي اللجوء للتحكيم الدولي وهو حل ممكن في الدول التي لديها ولو ذرة بسيطة من مبدأ فصل السلطات وأن السلطة التنفيذية تخضع لقرارات السلطة التشريعية وهو أمر مستبعد فمن غير المعقول أن يصوت برلمان اختارته بعناية شديدة وعلى الفرازة أذرع السيسي المخابراتية والأمنية ضد اتفاقية وقعها الأخير فالزعيم الملهم ليس وارداً في قاموس حياته مصطلح الخطأ، ليبقى الطريق الثالث والذي توقعه وتحدث عنه أكاديميون ومؤرخون مصريين وينسبوا فكرته والتخطيط له للرئيس الراحل السادات صاحب أول زيارة لزعيم عربي للكيان الصهيوني وأول المعترفين العرب به، وهو خيار مر بطعم العلقم باللجوء للكيان الصهيوني للتدخل لدى الجانب الأثيوبي الذي تربطه به علاقات متميزة للحفاظ على حصة مصر من المياه مقابل منح الكيان جزءاً منها ويبدو أن هذا ما يسعى إليه السيسي إرضاءً وتقرباً وتزلفا للجار صاحب السلام الدافئ ومن يملك مفاتيح جميع الأبواب التي قد تغلق أمام الجنرال الانقلابي في الشرق والغرب.

أما الخارجية المصرية حدث ولا حرج فقد عبر سامح شكري عن قلقه وتفاجئه من الموقف الأثيوبي وكأنه قادم من كوكب آخر وليس هو المسؤول المباشر عن الشق السياسي والدبلوماسي في علاقات مصر الخارجية وله العذر فالرجل كان مشغولاً بالتشاجر والصراع للانتصار على ميكروفون قناة الجزيرة العميلة في مشهد متكرر تفرد صحف وقنوات الانقلاب من أجل التحدث عنه ساعات وساعات، وليجد أبواقه الفرصة للتغطية على الفشل المقصود والتأمري في ملف سد النهضة وغيره من ملفات الفشل وفناكيش الانقلاب وما أكثرها بخلق عدو من وحي الخيال يحاول عرقلة مسيرة النجاحات المظفرة للقائد الملهم وكأن قطر وقناة الجزيرة هم من وقعوا بالموافقة على بناء السد وليس ولي أمره عبد الفتاح السيسي.

وليكتمل المشهد العبثي والمأساوي أطل علينا السيسي مصطحباً معه كبار قادة الجيش المصري ومسؤولي الدولة في زيارة إلى “بركة غليونبمحافظة كفر الشيخ لافتتاح أكبر مشروع للاستزراع السمكي، بالقرب من نفس المنطقة التي أعلن فيها في 10 أغسطس/آب 2010 إبان رئاسة الرئيس المخلوع مبارك عن قيام الدولة بتوزيع عقود الاستزراع السمكي لمئات الأسر في مركز البرلس كما ورد في صحيفة الأهرام شبه الرسمية، ويبدو أن السبوبة حليت في عيون العسكر وبدلاً من إعطاء الفرصة للقطاع الخاص والأهالي لفتح المجال أمام فرص عمل لآلاف العاطلين من سكان المنطقة، انبرى لها الجيش بمنظومة الأسماك المسلحة لنجد من يقدم نفسه كرائد مقاتل قائد خط الجمبري وآخر قائد لخط البلطي والبوري وثالث قائداً لمصنع الثلج في تراجيديا جديدة ومهينة من النوع الأسود والساعية ضمن خطة ممنهجة لهدم وتشويه صورة القوات المسلحة في أعين الشعب والعالم من حولنا، ليتحول من جيش نظامي مقاتل ضمن أكبر جيوش العالم إلى محط التندر والسخرية من قِبَل الجميع وليعمل على تحويل عقيدته واهتمامه عن مهمته الرئيسية وهي التدريب والتخطيط المستمر للدفاع عن الوطن ومقدراته وحدوده ومواطنيه، إلى الانشغال ببناء إمبراطورية اقتصادية وسبوبة تكفي لإشباع حيتان الدولة وأعمدة النظام وأدواته، غير عابئ ولا مكترث بأهمية الوقت وخطورة الوضع حال الانتهاء من بناء سد النهضة والبدء في ملء الخزان أمامه منذراً بقرب غرق مصر في نهر من العطش وانكماش الرقعة الزراعية غير الكافية من الأصل، في دولة تقيم مزارع لإنتاج الأسماك بينما تمتلك الآلاف من الكيلومترات على شواطئ البحرين الأحمر والمتوسط ويشقها من المنتصف نهر النيل الذي يبدو أنه قد قارب على ختام تاريخه الممتد عبر آلاف السنوات من تاريخ مصر، وختاماً قالوا قديماً “الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك” وعلى يد السيسي و انقلابه وجنرالاته تحولت إلى “سد النهضة كالموت القادم إن لم تقم بمنعه عطَّشَك وقَتَلك“.

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها