سارة جمال تكتب: علمتني الغربة (2)

هذا الشعور الذي لازمني سنوات، جعلني أتردد كثيرا في اتخاذ القرارات، وجعلني أقف طويلا في الطريق في حين أرى غيري يجري ليسبقني بشجاعته وحسمه للأمور.. يتبع.

 

هذا الشعور الذي لازمني سنوات، جعلني أتردد كثيرا في اتخاذ القرارات، وجعلني أقف طويلا في الطريق في حين أرى غيري يجري ليسبقني بشجاعته وحسمه للأمور، وإذا مشيت كنت أمشي ببطء خوفا من الخطوة القادمة التي لا أعرف كيف سأخطوها وأين ومتى؟

الخوف عندي ليس شعورا داخليا فحسب، بل هو ضربات في القلب سريعة وقوية، رعشة في اليدين، وتوقف عن التفكير.

اشتهرت بخوفي من الحيوانات وخاصة القطط، ولي معها مغامرات عديدة مخيفة بالنسبة لي.

كما أخاف الظلام والوحدة، وأخشى مواجهة الناس وحسم أمري معهم.

كان خوفي من الغربة يأتي على رأس القائمة، هذا الخوف الذي تبعه مشاعر أخرى سلبية، كالشعور بالعجز وعدم الثقة وشعور الفشل اللعين.

كانت الغربة كالشبح في نظري، بلد جديد لا أرى فيه شيء جميل، بيت جديد كبير أعيش فيه بمفردي مع أطفالي، كنت أراه بيت الرعب، سيارة أقودها كل صباح لتوصيل بناتي إلى المدرسة، أخاف طوال الطريق ذهابا وعودة إلى البيت، حتى أنني قررت ألا أخرج بالسيارة للتنزه أو زيارة صديقتي، لأنني خائفة من الطرق الجديدة التي لا أعرفها.

وجاء اليوم الذي كاد الخوف أن يقضى علىَ، فلقد استسلمت له لضعفي وقلة حيلتي وتأملت حال البعض حولي، وكيف أنهم أيضا في غربة ولكنهم لم يستسلموا لمخاوفهم منها، بل ظلوا يحاولون في سبيل التعايش مع غربتهم.

وعندما وجدت أنه لا جدوى من هذا الخوف سوى – تعب الأعصاب – كما يقولون، قررت أن أجتهد وأجاهد نفسي كي نقاوم الخوف.

فكان ثاني درس علمته لي الغربة، أن أكون أكثر قوة وشجاعة في مواجهة ما يخيفني ويقلقني، حتى لو كان ذلك الشعور مؤقتا وسريعا.

فقد كنت أخاف النوم ليلا وأنا بمفردي في البيت، وبمجرد خلود أطفالي إلى النوم، كنت أذهب مسرعة لأشغل القرآن بصوت واضح، ثم أضيء الأنوار كلها، وفي النهاية أذهب إلى سريري وأظل مستيقظة حتى الفجر.

فلا يغمض جفني إلا بعد اطمئناني ببداية شروق الشمس.

ولكم أن تتخيلوا كيف حال يومي بعد ذلك، كنت أستيقظ مبكرا مع الأولاد وقد انهارت قوى جسدي كاملة، فلا أستطيع القيام بمهامي في المنزل ولا حتى التحدث معهم، ولا فائدة من كوب القهوة أو الشاي.

ولأن الحال سيبقى على ما هو عليه، قررت أن أفكر في بديل آخر لفكرة السهر حتى الصباح.

أخذت أطفالي ليناموا بجانبي، وبالفعل كان هذا هو المسكن الفعال لآلام الخوف من النوم ليلا.

قضيت أشهرا طويلة أنام معهم، ولكن في النهاية حسمت هذا الأمر بأنه ليس مناسبا لهم، وأن علىَ أن أعلمهم من جديد كيف ينامون بمفردهم في غرفتهم.

وعادت ريما لعادتها القديمة، وعدت إلى السهر، ولكن لساعات قليلة، ليلة لا أعرف فيها للنوم طعما، وأخرى أنام فيها سريعا من شدة تعب اليوم.

وبدأت الغربة تعلمني ألا أخاف منها، بل أحاول أن أصادقها لأعرفها، فربما أعرفها وأحبها.

ولم يقتصر الخوف على الوحدة في البيت والنوم ليلا بمفردي، بل تجسد أمامي ككائن يفزعني؛ البرص وما أدراكم حجمه وشكله هناك، ولم يكن أمامي خيار آخر، وكان علىَ التطبيق العملي لما تعلمته، كنت استعين بالله أولا ثم بأطفالي ليساعدوني في ضربه والقضاء عليه.

ولم تكتف غربتي بهذه الدروس، بل علمتني أيضا ألا أخاف من مواجهة البشر، وأن الناس مهما كانت مناصبهم ومكانتهم فهم بشر مثلى.

علمتني أن كلمة (لا) ليست صعبة ولا  مستحيلة، وأن قولها لمن حولي ضرورة في كثير من المواقف.

أصبحت أسمع صوتي يعلو بداخلي فوق صوت الخوف، وشعرت لأول مرة في حياتي أن شخصيتي بدأت تنضج وتتبلور، وأني هنا، نعم هنا.

علمتني الغربة أن أتوقف عن خوفي من الغد، فاجتهدت ألا يصبح خوفي سببا في يأسى.

وبالرغم من كثرة الدروس التي تعلمتها عن الخوف، إلا أنه لم ينته تماما، ولكن على الأقل أصبحت أعرف متى أكون خائفة، وكيف أستطيع أن أتحكم في خوفي قبل أن يتحكم فيَ.

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها