زُجاجة الآسيتون وقصة جدتي

كل هذه المشاهد تُذكرني بقصة كانت ترويها لنا جدتي رحمها الله قصة “صُبعين والحس الطّين” وهي قصة تاجر عسل بارت تجارته، فنادى في الناس “عسل عسل، عسل صبعين والحس الطين”

هناك أمور كثيرة أخذتها على محمل البساطة، هكذا كما كنت أراها وأنا صغيرة، من المُسلمات ومن الأشياء التي تمّ البتّ فيها في ذهني ولا تحتمل التفكيك والتعرّف أكثر.

أدركتُ بعدها أنني مُخطئة جدا وأن “أتفه” الأشياء قد تُؤدي إلى مسارب تؤول بك إلى أمور كبيرة،  هكذا خُيّل إليّ وأنا آخذ زُجاجة السائل الذي يُستعمل في إزالة طلاء الأظافر ( acétone ) لأُنظف أظافري! وقرأت خلف الزجاجة المكونات، وبنقرة في مُحرك البحث وجدت أن مُكتشف هذه المادة هو حاييم وايزمان هذا الرجل أعرفه، كان أستاذي في مادة “تاريخ اليهودية” قد أشار له. حاييم وايزمان من أشهر الشخصيات الصهيونية، ثُمّ أُثيرت في ذهني صورة “الصهيونية” وكيف أنها كانت ولاتزال عند الكثير بمثابة “شتيمة أي أنني، أتحدث عن نفسي، كنت أحسبها لفظا أُريدَ به إهانة وسبّ الإسرائيليين الذين استوطنوا فلسطين.

لكنها في الحقيقة كانت تسمية تُثير اعتزاز منتسبيها، حركة نشطة في اتجاه احتلال فلسطين بشتى السُّبل والوسائل المُتاحة وغير المُتاحة هم “يخلقونها، كانوا يعتزون بصهيونيتهم أشد اعتزاز ويتحمسون لها. أستحضر الآن قصة ماركوس سيف (عائلته صاحبة الماركة العالمية M&S  ) الذي كان زوج ممثلة أمريكية جميلة وكان يضع بجانب صورتها صورة رجل ” مُخيف” السيمات وهو دافيد بن غوريون (أول رئيس لوزراء إسرائيل)، فكان زوار ماركوس عندما ما يدخلون تجلب انتباههم صورة زوجته الممثلة الجميلة المشهورة فيتساءلون ضاحكين عن الصورة الثانية !

وهكذا كان ماركوس سيف يتعمّد احداث “الفارق” بين الصورتين ويستفز زواره كي يسألوه فيجد الفرصة للحديث عن الصهيونية وآمالها وأفكارها ومشروعيتها.

وهكذا أيضا، كنت أنا صغيرة أستبدل لفظ إسرائيلي بصهيوني إيمانا مني بأنني أُهينهم لغة ومعنى على الأقل، لكن حتى ذلك لم يكن مُتاحا لي فيما يبدو acétone إن القوم يفتخرون بتلك الصفة ويعتزون بانتسابهم ذاك. الأمور ليست بسيطة بتلك الـصورة. الأمور مُعقدة والواقع مُركَّب جدا.

في البـداية لابد من “مسحة” أولى لإزالة لُبس المفاهيم وبساطتها الخادعة، لا أدري هل نحن أجيال مُغيبة تماما عن المشهد أم هو تغييب بفعل فاعل؛ لكن في هذا الأمر بالذات أتذكر أن محور القضية الفلسطينية في المناهج الدراسية كان مُهمشا تماما كان مؤجلا لآخر السنة الدراسية وفي الغالب لا يصل الأستاذ إلى تدريسه وحتى إن قام بجهد إضافيّ فلن يكون كافيا. زد على أننا أجيال لا تتعب من أجل المعلومة ومن أجل البحث الدراسيّ. لذلك تجدنا وإلى اليوم نأخذ الأمور ببساطة مُتناهية وبتعريفات سطحية جدا وشعارات حماسية تفتقر إلى الرسوخ في العلم بحقيقة الأحداث.

كل هذه المشاهد تُذكرني بقصة كانت ترويها لنا جدتي رحمها الله قصة “صُبعين والحس الطّين” وهي قصة تاجر عسل بارت تجارته وكسدت فاستعاض بجرار العسل العادية بجرار أُخرى مُزينة وألّف كلمات رنّانة موزونة يجلب بها المشترين؛ فصاح في السوق بجراره الجديدة “عسل عسل، عسل صُبعِين والحس الطين” هرع الناس ليشتروا دون تمعّن أو تفكيك للعبارات وقد جذبهم رنين الكلمات !

ثُمّ تكشّف لهم “ضحالة” العسل، مع الإصبع الثاني ينتهي العسل الذي كان في الأعلى ويلعقون الطين في الأسفل قصة بدت لي حينها بسيطة أيضا، مثل كل شيء آخر كان يعترضني، لكنني اليوم أفهمها بشكل آخر تماما فـجِرار العسل يُمكن أن تكون “الثقافة” التي نتشدق بها جميعا والتي حين توضع تحت “المُساءلة” نتكشف أنها ضحلة جدا وغير عميقة و بسيطة جدا يُمكن أن تتساقط في أوّل محكّ، الكلمات التي نحفظها عن بعض الروايات والكتب هشة جدا مع ذلك نحن “نحتفل” بها في منشور على صفحات التواصل الاجتماعي. وهو ذات الأمر بالنسبة لـشعاراتنا الرنانة تجاه فلسطين والتي نعتبرها “بوصلة” كل الأمور والقضايا.
لا نطالب  الناس العاديين أن يُلمّوا بتفاصيل عديدة لكن من العار على أجيالنا  التي تتوفر لها كل الأساليب لتعرف أنها لا تعرف! بل تُعيد نفس المصطلحات وتُدير نفس الكلمات ببساطة زاعمة أنها صاحبة قضية وتُقيم  .المناسبات في ذكرى المذبحة والتغريب والنكبة.
يجب علينا إذا أن نمُرّ من مرحلة العادي البسيط المعلوم إلى مرحلة المساءلة الدائمة التي تستنطق الظواهر وتُفككها أي أن لا نكون “رومنسيين” أيضا في تبنّينا للأفكار والقضايا، وأن ننفض عن أذهاننا مفاهيم توارثناها أو حفظناها أو أملتها علينا بعض الأسباب.

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها