رضينا بالهم

المثل الشعبي المصري الشهير يقول “رضينا بالهم والهم ما رضيش بينا”.

والهم المقصود هنا هو المرارات والآلام والإحباطات التي تترسب في نفس صاحبها نتيجة فشله في الوصول لمصلحة أو هدف بعد أخذه بكل الأسباب التي توصله لهدفه، هو حال الفلاح المصري الذي رضي بكل الهموم وصار معها تعطيه حينا وتحرمه حينا حتى امتلأ حلقه بالغصص وفاض.

رضي الفلاح المصري أن يعمل ويتعب لينعم الوطن كله برغيف خبز شهي على موائد المصريين وضيوفهم وكوب لبن صبوح، وبيضات وجبن، وطبق فول يشتهيه الجميع، ويعمل فيه الكثير ولحم طير وخضروات وفواكه تنصب لها الشوادر والأسواق في كل قرية وحي يسعى لها الغالبية، ويرتزق منها الكثيرون حلال طيبا ،لو نظرت لهذه الحركة التي كلها بركة عمت الجميع أصلها دأب هذا الفلاح مبكرا كل يوم دون كلل أو تردد يعمل ويكدح هو وزوجته وأولاده ليغذي في النهاية هذه الأفواه، ويدفع هذه الحركة السوقية في طول مصر وعرضها ناهيك عن محالج القطن ومغازله ومصانع النسيج والزيوت والصابون والسكر والمطاحن والمخابز والمجازر والكثير الكثير.

الفلاحون في كل المحافظات “54% من الشعب المصري رجال ونساء فلاحون” تربوا على هذا الدأب والكدح ليثروا هذه الحياة اليومية المصرية بحاجاتها وضروراتها المتنوعة. قد يصفهم البعض بالجمود أو الرتابة وقد يقسوا البعض عليهم، ويصفهم بالبلادة وهم في الحقيقة ليسوا كذلك بل هم أهل العمل الدؤوب المتكرر والمتجدد كل يوم بل والمرتب له بدقة على مسار اليوم الواحد صباحا وظهرا وعصرا ومساء.

إنه الجد الذي استقر في أعماق الفلاح المصري فملأ ساعاته بالعمل لا يستطيع أن يقطعها لحاجة وطنه إلى هذا الدأب والجلد والعزيمة يحفظ أمنه الغذائي الذي يكلف الدول الكثير من العملة الصعبة التي قليلا ما تتوفر لدول يتوافق فيها الفساد والاستبداد والدولة العميقة التي تسعى لتدمير إرادة الدول، وتبديد مقوماتها فتجعلها تلجأ للأرخص والأسوأ فتفقد صحتها وكرامتها وقدرتها على تلبية الاحتياجات الضرورية للشعب. أما الحكومات الرشيدة فتوفر الدعم والمساندة للزراعة والمزارعين في الولايات المتحدة ودول أوربا يصل دعمها للزراعة الى 100% من تكاليف المحاصيل مثل القمح، أما في مصر فحدث بالعجائب والغرائب فمصر التي كانت سلة القمح في المنطقة أصبحت بمنظومات الدولة العميقة أكبر دولة مستوردة للقمح في العالم قبل الصين التي تخطي شعبها المليار ونصف نسمه.

حكومة الانقلاب تدفع الفلاحين إلى الامتناع عن زراعة القمح وما جرى العام الماضي وهذا العام خير دليل؛ فهي توقفت تماما عن أي دعم زراعي للفلاح المصري مع تركه فريسة لسوق الفساد في احتياجات المحاصيل منه برفع سعر الأسمدة والمواد البترولية وقلة الماء وفوضي المبيدات مما تسبب في خسارة موجعة الفلاحين العام الماضي في مقابل ستة مليارات جنيه اختطفتها شبكات الفساد. وفي هذا العام 2017 تم تقدير السعر بـ 565 جنيها للأردب ومثيلة في السوق الدولي يساوي 815 جنيها للأردب بخسارة تصل إلى 250 جنيها في الأردب الواحد لزارع القمح المصري ثم تكلف الدولة العميقة المليارات من دم الشعب المصري لاستيراد القمح الرديء الملوث من الخارج.

منذ بدأ تسليم المحصول في 15 أبريل/نيسان 2017 وحتى 24 مايو/أيار لم تستلم الحكومة أكثر من 2.6 مليون طن “وهو رقم مبالغ فيه كثيرا” في مقابل 3.832 مليون طن قد استلمتها الحكومة في نفس الفترة من العام الماضي “وفق اليوم السابع”، وبالتأكيد دخل القمح المستورد ضمن هذه الكمية التي شكى الفلاحون من تعقيد إجراءات الاستلام ففضلوا البيع للتجار الذين يستلمون القمح منهم بأسعار فورية تزيد عن 100 جنيه في الأردب الواحد والاستلام في الحقل مما يخفف عن الفلاح أجرة النقل التي فرضته إجراءات الحكومة والتي تصل إلى الانتقال بالمحصول إلى محافظة أخرى لبعد نقاط الاستلام عنهم ولجأ كثير من الفلاحين إلى الاحتفاظ بجزء كبير من محصولهم لعلف حيواناتهم  لرخصه عن ثمن العلف.

بعد فوضى العام الماضي والذي انتهي باختلاس أكثر من ستة مليارات جنيه غير ما خسره الفلاحون في النقل وانتظار التسليم وتأخير استلام الأثمان شكل برلمان القبول بكل شيء على حساب الشعب لجنة تقصي حقائق انتهت بتقرير ضربت به الحكومة وجوه الفلاحين، وصمت الاتحاد التعاوني الزراعي كأنه لا علاقة له بالفلاحيين ومشاكلهم، وكذلك نقابات الفلاحين؛ أما وزرة الزراعة فهي التي صنعت المهزلة بتحديد السعر وأتمتها وزارة التموين باتخاذ قرارات لا تحقق مصالح أحد غير دوائر الفساد التي تهدف إلى إسقاط محاصيلنا الرئيسية وتيئيس الفلاح المصري من زراعته.

لا علاج للفلاح ولا معاش ولا دعم ثم ينتج فتوضع القرارات التي لا تجلب في النهاية إلا  الخسارة واليأس..

تحقق فينا المثل ” رضينا بالهم والهم ما رضيش بينا “.

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها