داليا الحديدي: نظرات في المادي وعبرات في المعنوي

الدرج هو سلم من أدني لأعلى يستخدم للصعود، والهبوط والدرجات هي رتب واقعية تطلق على المنزلة العليا،أما الدرك فهي المنزلة السفلى ..يتبع

 داليا الحديدي / كاتبة مصرية

عاث علماء اللغة “إصلاحاً” لإيجاد علاقة بين الدال والمدلول، وخصص آخرون حروفا محددة تصلح لمعاني بعينها باختلاف جرس اللفظ، فحرف ”الحاء” دال على معاني الراحة، مثال: حب، حنان، حياة، بينما حرف ”ق” لصيق بالقوة و الفخامة حتى قيل أن قصائد الغزل لا تلائم قافية ال “قاف” لغلظته.

وأشاروا لأفضلية قافية “الراء” لرقته، بينما ال”غ” فمغزاه الظلمة والحزن و العتمة، كما في غيم، غم،غبن.

 وبين الحروف و الدلالات نذهب لوجود تقارب آخر في المعانى بين المادي و المعنوي بالتلاعب في الحروف.

فالخلقة هي ملامح الجسد و صفاته، كذا الأخلاق، ملامح الروح و صفاتها، والعري هو كشف عورة “الِخلقة” أما العار فهو فضح عوار الأخلاق و نقائِصها.

والحياة هي صورة مادية لمعيشة الجسد، أما الحياء فهو برهان حياة الروح و يقظتها.
وإذا كان الشَعر هو خصلات رفيعة تزين رأس الانسان، فإن الِشعر هو المعاني الرفيعة التي تتلاعب و تزين وجدان المرء فتمس أوتار روحه.
والصلة هي اتصال المخلوقات ببعضها، بينما الصلاة ترقى لتواصل المخلوقات بخالقها، والألف في الصلاة مد ممتد لعنان السماء.
و “الجرح” شرخ مادي يصيب الجسد فيؤذيه، بينما “الحرج ” جرح معنوي يشرخ الروح فيؤلمها.
الدَينْ المادي هو التزام بسداد قيم مادية نقدية أو سواها تجاه أشخاص حقيقين أو اعتباريين وما لم يلتزم الفرد بسدادها يعد جانيا.
 بينما الِدين هو التزام الفرد بشريعة الخالق و ما لم يلتزم الانسان بالوفاء بهذه الديون المعنوية تجاه ربه يعتبر آثم.
قديماً، استخدم لفظ حُجَة كبديل لـ “عقد” واستند إليه كبرهان لأحقية الفرد، طبيعي كان أو اعتباري، لعين أو عقار نظير سداده لقيمته المادية.
 أما الحَج فهو أحقية المرء المقيم لهذه الفريضة وفقاً لمناسك معينة موقوتة، بإتمامها تكتب له حجة يحاجج بها ربه يوم الدين، وتنهض برهانا لاستحقاقه للمغفرة.
“ذكاء” العقل دليل حصانته،ونقاؤه من الغباء، بينما ” زكاء” النفس برهان طهارتها و صفائها من الكراهية والبغضاء.
الهواء ما يتنفسه الإنسان من الأكسجين بينما “الهوى” هو ما ينفس عنه المرء من شهوات تهوي به في دركات جهنم ما لم يضبط أهوائه.
الأمن تلك الطمأنينة التي يشعر بها الفرد في محيطه الخارجي، بينما الإيمان ذلك السلام النفسي الذي يحسه المرء داخلياً.
فالأمن متطلب أساسي للإنسان، يعوذه حتى في معتقده، بل يحافظ على دعواته بـ “آمين” لتسموا في السماء آمنة من كيد المردة و الشياطين.
الدرج هو سلم من أدني لأعلى يستخدم للصعود والهبوط والدرجات هي رتب واقعية تطلق على المنزلة العليا، أما الدرك فهي المنزلة السفلى، والمدارك هي رتب تخيلية عميقة لمستويات الوعي الفكري والوجداني.
الِحبر هو مداد يكتب به لتوضيح الكلمات..
بينما الحَبر هو عالم الدين القادرعلى بيان مقاصد المداد للمريدين.
دس الدسائس تشير لمن حاك مؤامرة مادية كدس مسروقات خِفية للكيد بعد، بينما داث، فتطلق على من لان و سهل فصار ديوث لا يغارعلى أهله، فسهل للآخر دس السفاح في نسبه لعدم خشية الناس منه.
ضرس الطعام بالغ في عضه بأضراسه، أما من درس العلم فتعني وطأه وداسه بعقله ليسهل عليه فهمه. 
الصب مادياً هو السكب فصب الماء أي أفرغه، لكن الصب المعنوي يفيد العشق. فشاب يصبوا لفتاه أي يريد إفراغ أشواقه لها. و لقد ورد في النص القرآني “وإلا تصرف عني كيدهن أصبُ إليهن” في إشارة لضراوة المحنة التي كابدها يوسف فاستنجد بخالقه لينجيه من الصب أي الانجراف لصحيباته.
المبتور هو من بتر أحد أعضاء جسده ، بيد أن الأبتر هو المقطوع نسبه وذكره في الدنيا، وقدر ورد في الكتاب:” إن شانئك هو الأبتر”
العَبرات هي الدمع النابع من التأثر فيعبر عبر مجرى العين.. إلا أن العِبارات هي الكلمات، يلفظها الإنسان من وجدانه لتعبر لمحدثه، و تتقارب حرفيا مع لفظ العرب و كانوا أفضل الأمم اعراباً عن مكنوناتهم فاستحقوا لقب العرب.

الحرب هي مكان للعراك و الشجار بين الانسان وأخيه الإنسان للتنازع على شيء مادي ربما يكون صراعاً لتحرير أرض، أو استرداد مال وسواهما، فيما المحراب مكان  يتصارع فيه الإنسان مع نفسه، أو ربما مع شيطانه وأهوائه و يظل يتشاجر في هذا المحراب ليحرر نفسه من أجل استرداد مكانته السامية لدى خالقه فهو صراع نفسي لا مادي.

الثبات يعني عدم حراك الأشياء المادية بينما السبات يتعلق بالنفس التي قد تنام في سبات عميق أو ترتاح يوم السبت كما أمر الله اليهود.

الكفالة هي تحمل الأعباء الروحية و النفسية عن شخص، وهي مشتقة من الكفل أي مؤخرة الظهر أو العَجُزُ للإِنسان والدَّابة، وهو ما يؤكد أنه حري بالكفيل تأمين حياة آمنة لليتيم لاسيما حماية عرضه، وضمان حياة كريمة لمستقبله لا مجرد دفع مبلغ مادي معين له دون العناية به أو حتى مقابلته، ثم يعتقد أنه “كهاتين مع الرسول في الجنة”!
اما الكلفة فهي تحمل ودفع الأعباء المادية فحسب، فالمتكلف يتحمل ثمن ما يدفعه.
السقف هو كيان مادي يؤمن بيت الإنسان فيحميه من التعرض لأمطار الشتاء أو حرارة الشمس في الصيف أو يؤمنه من سرقة اللصوص .. بينما المثقف هو من يحوذ من الخبرات الحياتية سواء في العمل أو بسبب السفر و الثراء المادي، والدعم الأسري، والعمق المعرفي، والعزوة من خلال معارفه وأصدقاؤه مايجعله هو نفسه وكيانه مثقف أي محمي ومؤمن لا يقضي عليه فشل، ولا يحط من شأنه عدو أو سفيه بل لأنه مثقف فهو قادر على المواجهة والإستمرار في الحياة  أمناً مطمئناً.
الميراث هو القيم المادية التي تؤول لمستحقيها وفقا للشرع سواء من أراض، عقارات، نقد، مصاغ أو سواه .. بينما التراث هو القيم الحضارية التي تؤول للشعوب من إرث ثقافي، تاريخي علمي و معرفي و حضاري . وقد أشار العلي القدير لهذا المعنى في سورة الفجر: “..وتأكلون التراث أكلاً لما وتحبون المال حباً جما”.
و المعنى في أكل التراث لماما أي أنكم تتعاملون معه بخفة و عدم إهتمام، بينما المال فهو الحب الحقيقي و بينما ذكر الأكل اللمام في تعاطي الناس مع موروثهم الحضاري والعلمي إلا انه كنى بالجيم المعطشة في “جماً ” ليلمح إلى مدى تعطش الخلق للمادة  والمال .
فالنزاع  لا ينشأ بين الإخوة المسالمين إلا على الميراث المادي، بينما يتسامحون فيما بينهم بشكل ملائكي ولا يتشبثون في القيم التي ورثوها من الأباء . بل ربما يذكر الابن بشكل عفوي أنه ورث طبعا معينا من والده أو خصلة بذاتها من والدته.
عصارة القول، أن ثمة علاقة بين المادي و المعنوي عالقة بأسرار الحروف و الكلمات، حتماً ستغري الباحثين لبيانها.
داليا الحديدي
كاتبة مصرية

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها