حرب الليرة.. صمود تركيا ومأزق ترمب!!

 

تصاعدت الأزمة بين تركيا والولايات المتحدة منذ مطلع الشهر الجاري، حين فرضت الولايات المتحدة عقوبات على وزيري العدل والداخلية التركيين، وأوضحت أن العقوبات فرضت بطلب من الرئيس الأمريكي دونالد ترمب ردًا على استمرار اعتقال ومحاكمة السلطات التركية للقس الأمريكي “أندرو برانسون”، وردت تركيا على الفور وبقرار من الرئيس أردوغان بفرض عقوبات مماثلة لنظيري الوزيرين التركيين في الحكومة الأمريكية، في رد سريع وحاسم على القرار. ترمب الذي يتصرف وكأن تركيا ستصدع بأوامره كما غيرها من الدول المتحالفة مع الولايات المتحدة “التابعة والموالية لها بمعنى أدق” في المنطقة.

برانسون الجارية محاكمته بتهم عدة منها مساعدة التنظيم السري الموازي لأتباع فتح الله غولن (المقيم في الولايات المتحدة) الذي تعتبره أنقرة العقل المدبر لمحاولة الانقلاب الفاشلة في يوليو/تموز 2016، وتطالب بتسليمه بالطرق القانونية المتعارف عليها دوليًا.

وتتعنت الولايات المتحدة في تسليمه وتمنحه الحماية والملاذ الآمن ليواصل مخططاته وتآمره ضد تركيا مستهدفًا استقرارها وأمنها، في دليل واضح على مدى تواطؤ الولايات المتحدة، بالإضافة لملفات أخرى لم تثبت أمريكا فيها حسن نواياها تجاه حليفها في المنطقة مثل الدعم الكبير والمتواصل للفصائل الكردية المسلحة في سوريا ذات الصلات الوثيقة مع حزب العمال الكردستاني المصنف كتنظيم إرهابي داخل تركيا، والتحقيق مع حرس الرئيس أردوغان والمماطلة في تسليم الأسلحة المتعاقد عليها وقضية بنك خلق وغيرها، وسعيها الدؤوب لعرقلة مسيرة التقدم التركية ومحاولاتها المستمرة لتحجيم الدور التركي المتنامي والمتعاظم في المنطقة العربية والإسلامية بما يخدم مصالحها ومصالح حلفائها دون إغفال الجانب الإنساني والأخلاقي تجاه تلك الشعوب.

بات واضحًا أن المحاولات لن تتوقف فبعد المحاولة الانقلابية الفاشلة مساء 15 يوليو/تموز 2016 ثم التدخل العسكري التركي الناجح في شمال سوريا وتحرير عدة مناطق وإقامة مناطق آمنة للاجئين السوريين وهو مطلب عجزت أو بمعنى أدق تلكأت كافة القوى الدولية الفاعلة في سوريا وعلى رأسها أمريكا في تحقيقه وتضييق الخناق على الميليشيات الكردية المعادية لتركيا هناك.

وتبع ذلك فوز الرئيس أردوغان والتحالف المؤيد له بالانتخابات الرئاسية والبرلمانية في 24 يونيو/حزيران الماضي وتيقن الجميع شرقًا وغربًا أن عليهم التعامل مع أردوغان وحكومته لخمس سنوات قادمة، فتم تغيير الدفة من المحاولات العسكرية والسياسية لتغيير نظام أردوغان لمحاولات اقتصادية هدفها الحد من تطلعات تركيا لاستمرار مسيرتها التقدمية في كافة المجالات والعمل على دفعها للانكفاء والانشغال بمشاكل اقتصادية داخلية عبر خلخلة الوضع السياسي والاقتصادي للدولة التركية.

وجاء قرار ترمب الأرعن وغير محسوب العواقب بفرض عقوبات اقتصادية على تركيا وما تبعه من آثار سلبية على سعر صرف الليرة التركية مقابل الدولار دون إغفال وجود أسباب وتراكمات سابقة أثرت على قيمتها، ورد تركيا بالمثل وفرض رسوم جمركية إضافية على لائحة من المنتجات الأمريكية بنسب متفاوتة، ولن أطيل التحدث عن الجانب الاقتصادي فكما يقولون “تعددت الأسباب والوسائل والهدف واحد” ألا وهو إيقاف تركيا وإبقائها كما غيرها في مربع الحليف المطيع وليس علاقة الند للند القائمة على المصالح المتبادلة.

ولا أستغرب أي تصرف أو عداء من الحكومات الغربية تجاه تركيا فهذا هو المتوقع والمعتاد منهم تجاه الدول العربية والإسلامية لو حاولت إحداها مجرد محاولة للخروج من العباءة الغربية والعمل لمصلحة شعبها في المقام الأول، ولكن الأعجب هو وقوف بعض الدول العربية في منطقة الخليج العربي من وراء الستار بجانب الكاوبوي الأمريكي بغضًا لتركيا وكراهيًة لشخص الرئيس أردوغان فمن تعود على الانبطاح والانسحاق لكل ما هو غربي من الطبيعي ألا يقف في صف من يسير في طريق الاستقلالية والانعتاق وامتلاك القرار.

ليس بغريب على من يفرض حصارا بريا وبحريا وجويا على “قطر” جاره القريب المشترك معه في النسب والجغرافيا واللسان والدين أن يتمنى سقوط أو تراجع جاره البعيد “تركيا” المشترك معه في الدين والمصير، فمن تعود على الانحناء يعز عليه أن يرى غيره واقفًا معتدًا بنفسه معتزًا بدينه ودولته مدافعًا عنها ضد كل من يستهدفها، إنها عقدة النقص المترسخة بداخل كل من يستمد شرعيته وبقاؤه في السلطة بدعم أمريكا والغرب لا بد أن يكون ناقمًا على كل من يستمد شرعيته بأصوات شعبه ودعم مواطنيه.
إنه الخوف من تأثر الشعوب العربية بالنموذج التركي وتمنيهم أن يتم تطبيقه في بلادهم، وما زادهم غيرة وحسرة وكمدا هو التضامن اللافت مع تركيا في خلافها مع أمريكا ترمب هذا التضامن الذي امتد من باكستان شرقًا مرورًا بالبلقان والقوقاز وشعوب الخليج خاصةً قطر والكويت، والموقف الرسمي القطري الرائع عبر زيارة أمير قطر الشيخ “تميم بن حمد آل ثاني” إلى تركيا وإعلانه عن استثمارات مباشرة بقيمة 15 مليار دولار وصولًا إلى أفريقيا هذا التضامن الشعبي غير المسبوق زاد في معادلة التآمر ضد تركيا وشعبها من قِبَلْ هؤلاء.

ترمب بتصعيده المستفز والمتعمد متذرعًا بقضية القس برانسون والمستمرة منذ عامين أمام القضاء التركي يسعى عبر محاولات الضغط المستمر على تركيا لتسليمه دون قيد أو شرط لتحقيق مكاسب سياسية في المقام الأول إذ اقتربت الانتخابات النصفية للكونغرس الأمريكي بغرفتيه في تشرين الثاني/نوفمبر القادم، وسيقوم الأمريكيون خلالها بإعادة انتخاب التشكيلة الكاملة لمجلس النواب (438 نائبًا) وثلث مجلس الشيوخ المكون من 100 مقعد، تأتي هذه الانتخابات في ظل تراجع حاد في شعبية ترمب وحزبه، لكن في نفس الوقت لا يمكن لترمب الدفع باتجاه المزيد من التصعيد مع الجانب التركي خوفًا من توجه تركيا فعليًا وبوتيرة أكبر وأسرع لتغيير أو موازنة جدول حلفائها من الدول المناوئة لواشنطن.

ولتوضيح الصورة هناك روسيا التي تشعبت تفاهمات وصفقات تركيا معها العسكرية مثل منظومة الصواريخ “إس 400” ومشاريع الطاقة وغيرها، وتفاهمات مع الصين ورفض دعم العقوبات على إيران لتأثيرها بطريقة مباشرة على تركيا، وأيضًا التململ الأوربي الواضح خصوصًا في ألمانيا من سياسات الوصاية الأمريكية وإدراكهم لخطورة الوضع حال تأزم الوضع الاقتصادي لتركيا وتأثيره المباشر على قارة أوربا بأكملها، بالإضافة لكون تركيا ثاني أكبر جيش بعد الولايات المتحدة في حلف “الناتو” وشريك رئيس في إنتاج الطائرة المقاتلة الأمريكية الأكثر تطورًا “F35” وأعضاء الحلف جميعًا يدركون مدى أهمية دورها في الحلف وعدم المجازفة بدفع تركيا للمزيد من التفاهمات والتقارب مع الدب الروسي والتنين الصيني.
وتركيا تعلم هذا جيدًا وتجيد اللعب بورقة التوازنات، ولا يستطيع الغرب برمته المجازفة بتعقيد الوضع الاقتصادي التركي أكثر خوفًا من امتداد الأزمة لتطال وتؤثر على الوضع الاقتصادي العالمي، وهذا بات واضحًا من ظهور علامات التأثر السلبي في البورصات وأسواق الأسهم العالمية.

ختامًا

ترمب بتصعيده هذا كان يهدف للحصول على نصر سياسي سريع يساعده على تحسين صورته ورفع شعبيته في ظل الهجوم المتواصل عليه من الكثيرين من أعضاء فريقه وحكومته السابقين وعلاقاته النسائية السابقة، والتحقيقات المستمرة بشأن الانتخابات الرئاسية، وآخرها ما حدث مع محاميه السابق “مايكل كوهين” وما تردد من أنباء عن عقده لصفقة مع المدعي العام الأمريكي لينال حكمًا مخففًا مقابل التعاون مع المحققين.
 ويخضع كوهين حاليًا للتحقيق بخصوص التهرب من دفع الضرائب والاحتيال على المصارف وانتهاك قانون تمويل الحملات الانتخابية مؤكدًا أنه قام بهذا بأوامر من ترمب نفسه لينطلق سيل من التكهنات بشأن خطر مواجهة ترمب إجراءات سحب الثقة منه وعزله، وهو ما دفع ترمب للتصريح في لقاء على شبكة “فوكس نيوز” بالتحذير من أن مثل هذه الخطوة ستقود إلى ضرر كبير بالاقتصاد الأمريكي وأن السوق سينهار وسيصبح الجميع فقراء جدًا، وتصريحاته إن دلت على شيء فهي تدل على صعوبة موقف ترمب، ويبدو أن توقعه لمثل هذا الوضع هو ما دفعه للتصعيد مع تركيا متوقعًا أو بمعنى أدق متمنيًا الحصول على نصر سياسي سريع.

نصر على غرار ما حدث في مصر حين استطاع إطلاق سراح المواطنة الأمريكية من أصل مصري “آية حجازي” بمكالمة تليفونية مع قائد الانقلاب العسكري “عبد الفتاح السيسي”، واستغل ترمب هذا جيدًا للترويج لنفسه كمدافع عن مواطني دولته بغض النظر عن أصولهم أو ديانتهم، لكنه فوجئ بصلابة الموقف التركي والالتفاف السياسي من أحزاب المعارضة التركية بشتى أيديولوجياتها وتوجهاتها والشعب التركي بكافة انتماءاته الدينية والسياسية والعرقية ووقوفهم بجانب حكومة بلادهم رافضين بصورة واضحة وقاطعة للعجرفة الأمريكية.
الأزمة سيتم حلها لا محالة فالطرفان يعلمان قدراتهما جيدًا ومدى حاجة كل منهما للآخر طبقًا لمعادلة المصالح السياسية والاقتصادية والعسكرية والتوازنات الدولية؛ لكن من المؤكد أن تركيا ستكون المستفيد الأكبر من تلك الأزمة فقد برهنت عمليًا على أن حقبة التبعية قد ولت إلى غير رجعة وأن هناك قوة إقليمية لها وزنها وتأثيرها على المستويين الإقليمي والدولي ويجب احترامها والتعامل معها طبقًا لعوامل ومبادئ المصالح المتبادلة.

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها