ثوار متقاعدون وثوار في خدمة الاحتلال

تذكرت هذه القصة وأنا أسمع وزيراً من وزراء سلطة عباس وما أكثرهم، يتقرب إلى الإسرائيليين من خلال وصفه لنضالات شهدائنا وأسرانا بالتطرف والعنف والإرهاب.

في صباح يوم دراسي في النصف الثاني من عقد التسعينيات، جاءني معلم مادة الأحياء في المدرسة التي كنت أعمل بها وفاتحني برغبة ابنة ضابط معروف في أكبر فصائل الثورة الفلسطينية، أن أعطيها دروساً خصوصية في مادة اللغة الإنجليزية التي أدرسها، وبما أني كنت مشغولاً بالتدريس في عدد من المراكز الثقافية فلم أكن أتعاطى مع التدريس الخصوصي، ولكني عندما سمعت اسم هذا المناضل وافقت مباشرة وأبديت استعدادي لتدريسها بالمجان.

ابتسم زميلي ابتسامة ساخرة لم أدرك كنهها إلا وأنا أدخل بيت هذا الرجل في واحد من أرقى أحياء عمان؛ ولن أبالغ لو قلت أنني دخلت أحد قصور الجان في حكاية من حكايات ألف ليلة وليلة؛ فالتحف والتماثيل مرصوصة في أركان المكان، فضلاً عن ثريات الكريستال والأثاث الفخم، أشياء لم أرها إلا في الأفلام.

دخلت زوجة مناضلنا المتقاعد مع ابنتها فعرفت فوراً من لهجتها أنها ليست فلسطينية، كما أنها لم تكن مسلمة، فقد تدلى من رقبتها صليب ذهبي، رحبت  السيدة بي بلطف شديد متحدثة عن كفاءتي وحب الطلاب لأسلوبي في التدريس، وكيف أن زميلات ابنتها نصحنها بي.

شربت القهوة التي قدمتها لي خادمة شقراء، عرفت من لهجتها أنها من نفس جنسية الأم.

قررت في داخلي أن أنسحب ولا أدرس البنت؛ فقد شكلت فخامة القصر استفزازاً لي، وتساءلت أهؤلاء هم من بنينا عليهم آمالنا في تحرير أرضنا السليبة! أهؤلاء هم الثوار الذين لطالما تغنينا بهم في أعراسنا.

نهضت معتذراً بأن لدي حصة في المركز الثقافي، ولما سألتني الأم عن موعد الدرس القادم حددت الخميس التالي، واستدركت قائلاً بأنني أتقاضى ثلاثين ديناراً مقابل الحصة الواحدة؛ وهو مبلغ يشكل ضعف المتعارف عليه بين المدرسين البارزين في ذلك الحين، طلبته محاولا الإفلات من هذه الورطة، ولكن الأم فوتت علي الفرصة وقبلت على الفور ولم تناقش!

قابلت زميلي في صباح اليوم التالي فانفجر ضاحكاً وقال لي: ثلاثون دينارا يا رجل!!

تخيلت في تلك اللحظة أن الثائر المتقاعد اتصل به طالباً تخفيض المبلغ قليلاً، ولكني فوجئت عندما أخبرني أنه ومدرسي الرياضيات والكيمياء والفيزياء يأخذون هذا المبلغ وأكثر.

وعرفت منه أن صاحبنا يمتلك نصف أسهم شركة معروفة لا تقل ميزانيتها عن عشرة ملايين دينار.

واظبت على الذهاب إلى قصر المناضل الهمام أسبوعياً، إلى أن انتهى العام الدراسي وقدمت الفتاة امتحاناتها ونجحت بمعدل لا بأس به، ولم أندهش هذه المرة عندما سمعت من زميلي أنها سافرت للدراسة في الولايات المتحدة الأمريكية، مهد الإمبريالية والاستعمار والداعم الأول للكيان الصهيوني.

انتهت قصتي مع هذا الضابط الذي لم أصادفه ولو مرة واحدة أثناء ترددي على قصره، وفي كل مرة كنت أسأل نفسي؛ ضابط من الصف الثاني وهذا نصيبه من النضال، فكيف يكون نصيب ضباط وقادة الصف الأول؟

تذكرت هذه القصة وأنا أسمع وزيراً من وزراء سلطة عباس وما أكثرهم، يتقرب إلى الإسرائيليين من خلال وصفه لنضالات شهدائنا وأسرانا بالتطرف والعنف والإرهاب؛ لم أصدق في البداية أن هذا الشخص يمكن أن يكون فلسطينياً، فالمؤتمر لضباط إسرائيليين متقاعدين، فماذا يفعل فلسطيني بينهم؟ ولكن عند التدقيق في وجهه عرفت من هو؛ إنه شخص فلسطيني الشكل و الملامح، و إسرائيلي الجوهر والمضمون والفكر.

من المفروض أن يكون شهداء فلسطين وأسراها خارج نطاق الصفقات والمساومة، فهم أنبل جوانب حياتنا وأكثرها إشراقاً، وما فعلوه نيابة عن الشعب الفلسطيني هو محل تقدير وتبجيل، ولا مجال للمزايدة عليه أمام صديق أو عدو.

ومن تصور واهماً أن إيقاف مخصصاتهم سيجفف منابع النضال هو أحمق ذو سوية معوجّة سقيمة، وأنا على يقين أنه لم يقرأ تاريخ الثورات الفلسطينية؛ فكم من فلسطيني باع مصاغ زوجته ليشتري بندقية يدافع بها عن شعبه ووطنه دون أن يمن على أحد بالنضال، ودون أن يبني قصوراً أو يؤسس مكاتب وشركات، ودون أن يشكل علاقات مع ضباط الاحتلال. و في النهاية ماذا يمكننا أن نصف شخصاً يجامل الصهاينة ويشاركهم احتفالاتهم؟ سأترك الإجابة لكم

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها