تنازلوا لأحبتكم وسامحوهم قبل أن تفقدوهم

لم أكتشفها إلا بعد فوات الأوان فقد قرأتها بالصدفة مرةً بعد أن فقدت أعزّة عليّ ولم يكن لهم في حينها في القلب حديث واحد فحسب بل أحاديث كثيرة وأشواقَ منعني من بثها إليهم انشغالي عنهم.

من أجملِ المقولات وأصدقها وأكثرها وجعاً بالنسبة لي هي التي قرأتها للدكتور علي الطنطاوي رحمه الله والتي يقول فيها:”ﺗﻤﺴﻜﻮﺍ ﺑﺄﺣﺒﺘﻜﻢ ﺟﻴﺪﺍ، ﻭﻋﺒّﺮﻭﺍ ﻟﻬﻢ ﻋﻦ ﺣﺒﻜﻢ، ﻭﺍﻏﻔﺮﻭﺍ ﺯﻻﺗﻬﻢ ﻓﻘﺪ ﺗﺮﺣﻠﻮﻥ ﺃﻭ ﻳﺮﺣﻠﻮﻥ ﻳﻮﻣﺎ ﻭﻓﻲ ﺍﻟﻘﻠﺐ ﻟﻬﻢ ﺣﺪﻳﺚ ﻭﺷﻮﻕ .. ﻭﺍﺣﺬﺭﻭﺍ ﺃﻥ ﺗﺨﻴﻄﻮﺍ ﺟﺮﺍﺣﻜﻢ ﻗﺒﻞ ﺗﻨﻈﻴﻔﻬﺎ ﻣﻦ ﺍﻟﺪﺍﺧﻞ ‏( ﻧﺎﻗﺸﻮﺍ، ﺑﺮﺭﻭﺍ، ﺍﺷﺮﺣﻮﺍ، ﺍﻋﺘﺮﻓﻮﺍ، ﺗﻨﺎﺯﻟﻮﺍ ‏) ﻓﺎﻟﺤﻴﺎﺓ ﻗﺼﻴﺮﺓ ﺟﺪﺍ ﻻ ﺗﺴﺘﺤﻖ ﺍﻟﺤﻘﺪ، ﺍﻟﺤﺴﺪ، ﺍﻟﺒﻐﺾ، ﻗﻄﻊ ﺍﻟﺮﺣﻢ … ﻏﺪﺍ ﺳﻨﻜﻮﻥ ﺫﻛﺮﻯ ﻓﻘﻂ، ﻭﺍﻟﻤﻮﺕ ﻻ ﻳﺴﺘﺄﺫﻥ . ﺍﺑﺘﺴﻤﻮﺍ ﻭﺳﺎﻣﺤﻮﺍ ﻣﻦ ﺃﺳﺎﺀ ﺇﻟﻴﻜﻢ. 

والذي أوجعني فيها أني لم أكتشفها إلا بعد فوات الأوان فقد قرأتها بالصدفة مرةً بعد أن فقدت أعزّة عليّ ولم يكن لهم في حينها في القلب حديث واحد فحسب بل أحاديث كثيرة وأشواقَ منعني من بثها اليهم انشغالي بالتوافه عنهم وكبريائي وأمراض شرقية كثيرة اخرى أولها وأهمها اعتقادي بأنه لا يجب علي أن أكون أنا المُبادر دوماً في السؤال عنهم و الاهتمام بهم أو الاطمئنان عليهم أو حتى التعبير عن الحب لهم فتلك تعد سذاجة.

وكيف أبادرهم السؤال أو الاهتمام وأنا  الكبير بالنسبة لهم حسب زعمي وهم الصغار والصغير هو من ينبغي عليه المبادرة تجاه الأكبر منه والسؤال عنه وليس العكس أو أني أنا البعيد المهاجر والغائب أو أني أنا من بادرت آخرَ مرة وصار الآن دورهم في الرد وأفكار غبية أخرى من هذا القبيل أورِثتُها من مجتمع مريض وظللت أعتقد وأعمل بها حتى فات بي الأوان ورحلوا ولم يعد الندم ينفع ولم يعد بالإمكان دعوتهم للاعتذار منهم ولم يعد بالإمكان ولو بالحلم عودتهم.

التعالي هو سبب كل ما نمُر به وتمر به مجتمعاتنا على وجه الخصوص دون المجتمعات الأخرى من مشاكل اجتماعية وأزمات وهو ذنب يكاد يكون أهم وأعظم من الكفر نفسه وهو أول ذنب عصى فيه إبليس ربه فقد ﺍﺳﺘﻜﺒﺮ حين أمره ربه فلعنه الله  ﻗﺎﻝ ﺗﻌﺎﻟﻰ:  ﻗَﺎﻝَ ﻣَﺎ ﻣَﻨَﻌَﻚَ ﺃَﻻَّ ﺗَﺴْﺠُﺪَ ﺇِﺫْ ﺃَﻣَﺮْﺗُﻚَ ﻗَﺎﻝَ ﺃَﻧَﺎْ ﺧَﻴْﺮٌ ﻣِّﻨْﻪُ ﺧَﻠَﻘْﺘَﻨِﻲ ﻣِﻦ ﻧَّﺎﺭٍ ﻭَﺧَﻠَﻘْﺘَﻪُ ﻣِﻦ ﻃِﻴﻦٍ (ﺍﻷﻋﺮﺍﻑ 12).

والكِبَر والكفر يوص كل منهما إلى الآخر أحيانا والكِبر سبب مهم ليُطرد المرء  من رحمة الله فما بالك إن كان الكبر والتعالي على أشخاص نحبهم ويهمنا أمرهم كالأصدقاء أو الأقارب فيدفعنا ذلك الاعتداد بأنفسنا الى قطيعة رحم ﺗﻮﻋّﺪ ﺍﻟﻠﻪ عز وجل ﻋﻠﻰ ﻣﻦ ﻓﻌﻠﻬﺎ ﺑﺎﻟﻠﻌﻦ ﻭﺍﻟﻄﺮﺩ ﻣﻦ ﺭﺣﻤﺘﻪ ﻳﻘﻮﻝ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﺰ ﻭﺟﻞ :   ﻓَﻬَﻞْ ﻋَﺴَﻴْﺘُﻢْ ﺇِﻥْ ﺗَﻮَﻟَّﻴْﺘُﻢْﺃَﻥْ ﺗُﻔْﺴِﺪُﻭﺍ ﻓِﻲ ﺍﻟْﺄَﺭْﺽِ ﻭَﺗُﻘَﻄِّﻌُﻮﺍ ﺃَﺭْﺣَﺎﻣَﻜُﻢْ ‏( 22 ‏) ﺃُﻭﻟَﺌِﻚَ ﺍﻟَّﺬِﻳﻦَ ﻟَﻌَﻨَﻬُﻢُ ﺍﻟﻠَّﻪُ ﻓَﺄَﺻَﻤَّﻬُﻢْﻭَﺃَﻋْﻤَﻰ ﺃَﺑْﺼَﺎﺭَﻫُﻢْ ‏( 23 ‏)  (ﻣﺤﻤﺪ‏) ﻭﻓﻲ ﺍﻟﺤﺪﻳﺚ ﻋَﻦْ ﺃَﺑِﻲ ﺑَﻜَﺮَﺓَ ﺭﺿﻲ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻨﻪ ﻗَﺎﻝَ : ﻗَﺎﻝَ ﺭَﺳُﻮﻝُ ﺍﻟﻠَّﻪِ ﺻَﻠَّﻰ ﺍﻟﻠَّﻪُ ﻋَﻠَﻴْﻪِ ﻭَﺳَﻠَّﻢَ : ” ﻣَﺎ ﻣِﻦْ ﺫَﻧْﺐٍ ﺃَﺣْﺮَﻯ ﺃَﻥْ ﻳُﻌَﺠِّﻞَ ﺍﻟﻠَّﻪُ ﻋُﻘُﻮﺑَﺘَﻪُ ﻓِﻲ ﺍﻟﺪُّﻧْﻴَﺎ، ﻣَﻊَ ﻣَﺎ ﻳُﺪَّﺧَﺮُ ﻟِﺼَﺎﺣِﺒِﻪِ ﻓِﻲ ﺍﻟْﺂﺧِﺮَﺓِ، ﻣِﻦَ ﺍﻟْﺒَﻐْﻲِ ﻭَﻗَﻄِﻴﻌَﺔِ ﺍﻟﺮَّﺣِﻢِ “وقطيعة الرحم لا تكاد تختلف كثيرا في إثمها عن العقوق وآثارها قد تبدو  على المرء في  الحياة قبل الآخرة كقلة في الرزق وقلة التوفيق وغيرها وأكاد أجزم بأن أغلب القاطعين لأرحامهم منّا لم يقطعوها لأسباب جوهرية بل ما دفعهم لذلك هو الكبرياء والتعالي لا أكثر.

وخصوصا في هذا الزمن الذي صار التواصل فيه إلكترونياً ولا يكلفك السؤال عمن تحب شيئا لكنك ورغم سهولة التواصل تظل تتذرّع دوما وتنتظر منهم المبادرة ظاناً أنك الأحقّ بمبادرتهم بينما يظنون هم الشيء ذاته  ويظل كل واحد منكما مجافٍ للآخر حتى يقرأ مصادفةً نعي صاحبه فيأخذه ندم كبير ولن ينفعه الندم وقتها.

الحياة قصيرة ولا تستحق، والحياة بسيطة ولا داعي فيها لكل هذا الاتيكيت والتعقيدات التي أصابتنا مؤخرا. فما المشكلة إن اطمأننت كل حين على ابنتك او ابنك بدلا من أن يطمئن هو عليك وما المشكلة إن هنّأت طلابك بالعيد أو المناسبات الأخرى قبل أن  يهنئوك وما المشكلة إن عبّرتِ أو عبّرتَ عن حبك لزوجك أو أي أحد من أحبتك وأخبرته علنا على الملأ أنك تحبه دون أن تنتظر منه ذلك،صدقني لن يزيدك الأمر إلا رفعة وقيمة في قلب الآخر وإن كان مقصّرا هو معك فسيخجل من تقصيره وربما ستذكره بآخرين مقصّر هو معهم وبالتالي ستنال منه ثواب شيء لم تفعله ليس ذلك فقط بل نحن مأمورون بالبوح بمشاعرنا لمن يستحقها لكتمانها فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم إذا أحب أحدكم صاحبه فليخبره بأنه يحبه فإنه يجد مثل الذي يجد له. 

إذاً الدين لا يأمرنا بكبت مشاعرنا تجاه أحبتنا بل على العكس من ذلك وعبارة (ثقّل حالك) هي عبارة أوجدناها نحن لتدمر مجتمعاتنا ولتمحو الودية بيننا. 

الحياة لا تستحق ولا ينبغي علينا أن نعتدّ فيها كثيرا بذواتنا فنحن في النهاية كلنا عبيد لا أكثر وإن أكرمنا الله بشيء أو نعمة أو قوامة على غيرنا فهو القادر على أن يسلبنا في أي لحظة ذلك ويجعلنا في حاجة الآخرين قبل أن يكونوا هم في حاجتنا. 

الحياة لا تستحق ..صدقوني لا تستحق وغدا سنكون ذكرى والموت فعلا ضيف لا يستأذن.

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها