بلال فتيان يكتب: جوليو ريجيني..صديقي الذي أعرفه

رسالتي إلي أسرة جوليو ريجيني و لاصدقائه و لكل من أحزنهم موته:آسف لكم جميعا ..لكن هذا ما لدينا وهذا ما نعاني منه.يتبع

 “أصبحت حادثة مقتل الشاب الإيطالي جوليو ريجيني قضية رأي عام محليا وعالميا ؛ واختلفت الروايات حول حقيقة مقتله ، فبعدما وجد ريجيني ملقى في إحدى الطرقات بمصر، جثة هامدة ثارت إيطاليا شعبا و قيادة لتعرف من المسئول عن قتل ابنهم الذي أتي إلي مصر ( بلد الأمن والأمان كما تحكي الأسطورة) طالبا للعلم.

” و للحق حاولت مصر السيطرة علي رد فعل الجانب الإيطالي بالمماطلة أولا، ثم تعميم الجريمة علي عدة أطراف كما قال رأس النظام عبدالفتاح السيسي: إن من قتل ريجيني هم من يحاولون ضرب السياحة؛ في إشارة للقوي المعارضة له بالداخل. ونهاية لجأت مصر لأعلي مستوي في التزييف و الفضائح بتصفية 5 شباب زاعمة أنهم علي علاقة بقتل ريجيني، وأعلنت العثور علي متعلقاته الشخصية بحوزتهم في سيناريو يفتقر كل مقومات النجاح ويتشابه مع أفلام المقاولات في التسعينيات.
“دعونا نعترف أن هناك جزءا غامضا في كل الروايات التي تنسجها مصر من جانبها ويرفضها الجانب الإيطالي، وبين ما يحكيه العقل و يؤكده”.

ريجيني عاش في مصرنا وشرب من نيلها المهدد بالجفاف، وأكل من طعام شعبها و سار في شوارعها المكدسة و استنشق هواءها الملوث؛ فأصبح ابنا من أبنائها التعساء فلاقي ما يلاقه أبناؤها.
في السطور التالية نسرد معا احتمالات موت الشاب الإيطالي بصفته أحد أبناء مصر الحزينة.

1-ربما  ريجيني ثار يوما عكس تيار الحاكم العسكري للبلاد فحكم عليه قضاؤه بالسجن حتي يرجع عن فكرته الشيطانية. مكث عدة شهور في أحد سجونها المسماة زورا هكذا؛ و في الواقع هي مقابر جماعية، ثم ألبسه قاضي سيء السمعة الرداء الأحمر لخطورته علي استقرار كرسي الحاكم، وأُعدم بسلاسة.

ريجيني عاش في مصرنا وشرب من نيلها المهدد بالجفاف، وأكل من طعام شعبها و سار في شوارعها المكدسة و استنشق هواءها الملوث؛ فأصبح ابنا من أبنائها التعساء فلاقي ما يلاقه أبناؤها.

2-ربما الشاب المصري الإيطالي كان مسافرا من القاهرة المزدحمة لأبناء عمومته في أقصى صعيد مصر مستقلا قطارا مصريا عريقا عراقة أبو الهول و قديم قدم الأهرامات؛ ركب بصعوبة و اقتنص كرسيا مهترئ من أنياب الكثيرين الذين فشلوا في ذلك؛ تمكن النوم منه لطول المسافة، ولم يكن يعلم أنها أخر مرة ينام في وطنه الجديد فلم يصحو الشاب إلا على  انقلاب القطار ووفاته مع عشرات من الركاب.

 

3-ربما فكر ريجيني في الخروج من هذه البلدة بعد فشله في توفير حياة كريمة له و لتلك الفتاة التي خطبها منذ سنوات؛ باع كل ما يملك من أجل بضعة سنتيمترات علي مركب صغير للهجرة غير الشرعية؛ اختار أن يفعل مثل أبناء شعبه الجديد، ويغامر بالسفر إلي بلدان أوربا بحثا عن المال؛ حزم أمتعته ووضع صورة فتاته المنشودة في جيبه وانطلق في رحلته؛ جاءت الرياح بما لا تشتهي السفن، لم يصمد المركب الصغير أمام الأمواج العاتية والرياح العاصفة، وتاه وسطهم و معه ريجيني الذي نظر لصورة فتاته و كأنه يعتذر لها عن فشله في إكمال قصتهم معا قبل أن يغرق المركب الصغير ومن عليه جميعا.

 

4- ربما احتار ريجيني لفترة لاختيار فريق مصري لتشجعيه بصفته أحد أبناء الوطن الذين يجدون في متابعة كورة القدم ملاذا آمنا؛ اختار فريقا يتشابه بعض الشئ مع فريقه الذي كان يشجعه في وطنه القديم؛ ذهب معه في كل مكان مساندا و داعما؛ لم يكن يعلم ما يدبر في الكواليس؛ وقف مرتديا “تشيرت” فريقه الزاهي و يهتف بلغة عربية ضعيفة، والسعادة تحيطه مع أصدقائه الجدد؛ تجمع الجمهور أمام إحدى بوابات الملعب، وحدث تدافع بعد قفل الأبواب وتكدس الجمهور داخل ممر حديدي ضيق مات علي أثره جوليو مع مجموعة من زملاء التشجيع.

 إلي ريجيني وكل مصري لقي ذات المصير: أنتم السابقون ونحن بكم لاحقون”.. رسالتي إلي أسرته وأصدقائه و لكل من أحزنهم موته: آسف لكم جميعا .. لكن هذا ما لدينا وهذا ما نعاني منه.

5- ربما التحق ريجيني بجيش بلده الذي تخلي عن مهتمه في حماية أمن البلاد وانشغل بالسياسة و فشل في الاثنين؛ لم يكن هذا يشغل ريجيني الذي حصل علي دبلوم فني  واتجه لأداء واجبه نحو الوطن كما يسمع، ولكي يحصل علي شهادة إتمام الخدمة العسكرية كما يريد فقط كي لا تعيقه في حياته القادمة، مضت عدة أسابيع ليجد الشاب اليافع صاحب الـ 18 عاما نفسه مرتديا بدلة عسكرية كالحة ويحمل سلاحا قديم الصنع ويقف في أحد أكمنة شمال سيناء، وسط الصحراء الخالية من كل شيء سواه وزملاؤه وعدد قليل من المعدات العسكرية التي عفي عليها الزمان.


فكّر وتساءل: كيف جاؤوا به إلى هنا دون تدريب كاف، وبعتاد ناقص، وسط حالة من الغليان تضرب المنطقة بسبب القمع و القرارات الخاطئة ضد أبناء سيناء؛ وبينما هو في لحظة سكون سرح في سنوات عمره القادمة ولونها بألوان زاهية بدلا من تلك الألوان القاتمة التي تحيط به؛ في دقائق تحول الكمين لبركان من نار جراء قصفا مدفعي أسفر عن قتل كل من كان به، و مزق لوحة ريجيني الزاهية بالألوان.

 في العقرب لا  يجوز أن تكون مريضان  وإن حدث فأنت الخاسر الأول والخسارة حياتك؛ لن تجد من يعطيك  دواء، ولن تجد الحياة أساسا؛ اشتد عليه المرض وطلب من سجانه السماح له بالدواء؛ تخيل أن تطلب الإنقاذ ممن يريد قتلك؛

6- ربما ريجيني طالبا نجيبا اجتهد حتي التحق بكلية الطب المفضلة له محققا حلم والديه الأول والأخير؛ اتقن مهنته وذاع صيته ولم يمنعه ذلك من أن يشارك في قضايا وطنه المنكوب بإيجابية؛ رأي أحد ضباط الأمن الوطني أنه لا مشكلة من وضع ريجيني في تلك القضية الملفقة التي تضم عشرات المصريين؛  فهو يحتاج لذلك لكي يحصل علي ترقية منتظرة تضيف لمرتبه المزيد، وتزيد كتفه لمعانا. اعتقل جوليو مع آخرين و كان من حظه العثر أن يقبع في مقبرة العقرب، وهناك الموت قرار سياسي بامتياز، لم يمنع كونه طبيبا أن يُصاب بالأمراض المزمنة والاعتيادية للمصريين.
في العقرب لا  يجوز أن تكون مريضان  وإن حدث فأنت الخاسر الأول والخسارة حياتك؛ لن تجد من يعطيك  دواء، ولن تجد الحياة أساسا؛ اشتد عليه المرض وطلب من سجانه السماح له بالدواء؛ تخيل أن تطلب الإنقاذ ممن يريد قتلك؛ صدقني لن ينقذك أحد، تركوه يصارع مرضه وحده ودعوات رفاقه و فقط؛ أيقن أنه لن يصمد كثيرا أمام مرضه وحدث ما توقعه و توفي ذات صباح.

 

“إلي جوليو ريجيني وكل مصري لقي ذات المصير: أنتم السابقون ونحن بكم لاحقون”.. رسالتي إلي أسرة جوليو ريجيني ولأصدقائه و لكل من أحزنهم موته: آسف لكم جميعا .. لكن هذا ما لدينا وهذا ما نعاني منه.

 

 بلال فتيان

مدون مصري

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها