الميّت الذي أحدَثَ ثُقباً في قبره ليتنفس

كان غارقاً في صمته، ليس ثمة ضجيج قادر علي إثارة دهشته، هذا الذي كان إذا تحدّث أنصت الجميع فلا تكاد تسمع لهم رِكزا، كان يُطيل البَوح معتقداً بأن جرعة صمت زائدة كفيلة بحبس أنفاسه ومِن ثَم القضاء عليه، لذلك كلما تحدث عاد وتحدث أكثر، كان طوال حياته ذلك الفتى الذي يبحث عن شق في الجدار ليراقب ويشمئز أحياناً، ويتفهم أو يتعاطف أحياناً أخري لكن من بعيد، كلما شاهد ازدحاماً أو مكاناً مكتظاً يخنقه شعور بالمقت والضياع، لطالما وجد صعوبة بالغة في تقبّل الآخرين والالتصاق بهم ومِن ثَم التورط فيهم.

يوماً بعد يوم كان نفوره من الناس يزداد، الأمر الذي كان يسُرّه ويُمارسه بأريحية وسلام تام، فاختار العزلة بإرادته لأسباب تخصه كي يعيد إنتاج نفسه، ومن أجل الإبقاء على جزء أصيل منّه يمكنه أن ينبت مِنه من جديد، فأن تكون مُستقلاً متفرّداً أبداً يا له من عمل شريف وشاق، أو كما قال صديقي القديم أندري تشايكوفسكي “هذه الرغبة في التجمع لتجنب الشعور بالوحدة أمر مؤسف، لأنه يبدو أن الناس الذين يملّون أنفسَهم في خطر حقيقي”.

لَه وَجهَ مَن لا يأمَن الحياة مع الناس، تخلّي بكامل إرادته عن نصيبه في حفلة الضجيج وزخم الصورة العامة، رغم أن لديه حضور طاغي يترك أثراً خلفه كلّما حلّ وارتحل، هكذا يظن به الآخرون أو على الأقل هذا ما قِيّل عنه، لكن شخصاً يكره الإطار سيخرج منه دوماً باتجاه الحياة الرَحبة.

كان لديه نوره الخاص الذي لا يخبو، فلطالما اعتقد بأن ما يمنحه إياه قلبه أهم بكثير مما تمنحه إياه قلوب الناس، لذلك اختار أن يكون خفيفاً منهم بالاستغناء والتخلّي، لأنه يدرك تماماً حين تحضر النهاية سيواجه قَدَرَه وحيداً عارياً من كل هؤلاء الذين عابوا عليه وزاحموا نيّته، فقد عاش كل لحظات خوفه وحيداً بكل ما تعنيه الكلمة من وَحشَة وقلّة حيلة، لكنه كان يعلم أن الحياة ليست نُزهة ولا ينبغي لها أن تكون، فلابد للإنسان أن يُكابِد شيئاً ما، أن يقاوم فلكل منّا ألمه الخاص وعذاباته التي لا يُشفي منها.

فليس ثَمة طريق مفروش بالورود كما يدّعي الناس، فقط كان هناك طريق مُكتظ بكثرة العابرين وتخمة الحشود وسأم الغاية وبلادة الوسيلة، وطريق وحيد آخر هو طريقه الذي كان يعلم أنه سيكتشفه وحده وسيمشيه وحده، وستكون كلماته وآثاره علامته، طريقه الذي كان يدرك تماماً أنه محفوف بالأوجاع ومتخم بالخيبة وليس فيه وردة واحدة كما أوهموه، لكنه كان يدرك أنه ينبغي عليه أن يكون هو وردته التي ستزهر كل يوم، فكان عليه مسؤولية أن يصنع دربه بعناية فائقة قادرة على أن تمده بالدفء الذي يحتاجه جسده وقلبه.

لكن مع سعيّه الحثيث ومحاولاته غير المجدّية لأن يكون بخير، انتهى به الحال جالساً ببرود يراقب الحياة كما لو كانت تحدث في مكان آخر، مكان لا يستطيع لمسّه أو النفاذ إليه، كانت روحه جاثية على ركبتيها رُغم جسده المُنتصِب، وما إن حاول المقاومة كي يتغلب على هذا الشعور، إلاّ وأحسّ بأن روحه تتعامل معه كما لو كان شخصاً غريباً عنها ليس الذي كان عليه دائماً.

كان في حيرة لا يكاد ينفك منها، كالغارق الذي لا يريد أن يتشبث بشيء، ملامحه تبدو أكبر من عمره وجسده الصغير مجرد صورة لا تعكس حقيقته بينما في صدره عالم مشوّه من الخيبات، لذلك كان يتعين على أحدٍ ما أن يهز قلبه بلُطفِ من حين لآخر ليتأكد أنه ما زال يعمل بكفاءة، لكن لم يكن أحداً يعرف كيف يلامس قلبه دون عَصرِه. لذلك كثيراً ما بَدا مٌجَوّفاً مثل ليمونة عٌصِرَت عن آخرها وتٌرِكَت تحت الشمس، بينما روحه مُنهَكَة كما لو كان يتكوّر أسفل قبو وأن أحداً لا يمكنه إخراجه منه سوي الله.

لذلك خُيّل إليه أن مثله كمثل الميّت الذي ليس أمامه سوي أن يُحدِث ثقباً في قبره كي يتنفس.

لا أدري لماذا وأنا أكتب هذه الكلمات شعرت كمَن يحاول أن يفتح نافذة للبرد في غرفة مريض مٌصاب بالإنفلونزا؟، هل لمجرد أنني كتبت بعضاً منها على أحد شواطئ باريس في ليلة ماطرة؟ أم لأن إلهاماً ما مَسنّي كالبرق حين ارتقيت قمة جبال الألب في سويسرا فالقِمم دوماً ما تكون باردة، على أية حال لا يعنيني السبب وما سيؤول اليه مصير هذا الشعور، أتحاشي أن أكون علي دراية به، ولا أعتقد أن أحداً منكم يهمه معرفة ما وراء شعور كهذا، وأحيطكم علماً أنني كنت في حيّرة من أمري هل أمسك لساني على هونٍ قبل أن أتكلم أم أدُسُه في التراب؟، لكن حين فقد القلب عذريته و انفضت بكارة الروح كان من الصعب إحجام اللسان عن الكلام.. والسلام

قاتَل الله الخيّبات التي قَضَمَت قلوبنا…

وحسبنا الله في الظالمين ومَن رَكَن إليهم..

ولا سلاماً على غُربة نَحَتَت وجهها القبيح علينا.

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها