الفرق بين إسطنبول والجيزة

هبّ الأتراك في تلك الليلة إلى الشوارع مسطرين بطولات ومخلدين لوحات جابت العالم، فذاك كهل يمسك بكل ما أوتي من قوة يدا مرتعشة لجنديّ خائن رغم السلاح القاتل الذي تحمله.

تزامنا مع ذكرى محاولة الانقلاب الفاشلة التي شهدتها تركيا في كبد شهر يوليو من العام الفارط، عاشت جمهورية مصر العربية على وقع هجوم مسلح إرهابي استهدف دورية شرطة متنقلة فأودت بحياة خمسة من أفرادها.

قد يذهب ببعضكم الظنّ هنا بأني سأربط على طريقة عمرو أديب بين انتصار قطر على دول الحصار سياسيا ومعاقبتها لمصر عن طريق حليفتها تركيا من خلال إيقاظ خلايا إرهابية إخوانية” نائمة تحت أرصفة الجيزة، أو أني سأتكلم بلسان أحمد موسى، فأدعي بأنّ ذلك الّذي ظهر اليوم في إحدى الحفلات التي خصصت لتكريم شهداء أنقرة ليس الرّئيس التركي أردوغان، بل شبيه له لجأت إليه المخابرات التركية نظرا إلى أن أردوغان الحقيقي قد دخل مصر خفية ليطأ الجيزة وينفذ هجوما مسلحا ضد شرطيين مصريين بهدف زعزعة استقرار المحروسة وحجب إنجازات خاطفها عبد الفتاح السيسي.
ولو أردت هنا أن أقتبس الطرائف ممّن ملؤوا وحدهم الفضاء المصري فأقصوا الآخر، كما قالت فيهم الإعلامية فاطمة التريكي، لنفذ قلمي قبل أن تنفذ  طرائفهم.  

إلاّ أنّ المقطع المتداول للهجوم المسلح على دورية الشرطة المصرية، والذي أظهر لامبالاة من مواطنين مصريين كانوا شهود عيان يراقبون في صمت وخوف من لقّبوا أنفسهم إبّان ثورة يناير، تضرّعا، بالعبد المأمور، يُقتّلون، فيه من العبر المستخلصة الكثير. 

مقطع تزامن ظهوره مع ذكرى محاولة الانقلاب الفاشلة على سلطة شرعيّة اعتلت كرسيّ الحكم بانتخابات ما فتئت نسب المشاركين فيها تتزايد بمرور السنين، حين رأى الإرهابي “فتح الله غولن” ومن ورائه الجلابيب البيضاء وقد أغدقته مالا وجاها، أن إسقاط حزب العدالة والتنمية بات ضرورة ملحّة فأعدّوا له مستبقين عبر أبواقهم الإعلامية خبر نجاح ما يكيدون.

حينها، خاب ما كانوا يخططون، فسارع المواطنون في إسطنبول وأرجاء تركيا إلى الشوارع رافضين بأن يحكمهم “سيسي” آخر.

هبّ الأتراك في تلك الليلة إلى الشوارع مسطرين بطولات ومخلدين لوحات جابت العالم، فذاك كهل يمسك بكل ما أوتي من قوة يدا مرتعشة لجنديّ خائن رغم السلاح القاتل الذي تحمله، وذلك شاب ألقى بنفسه أمام دبابة كانت في طريقها نحو البرلمان معلنا أن الموت بعزّ ولا الحياة بذلّ، وتلك إعلاميّة أبت إلا أن توفي حقّ مهنتها فمررت، متحدية ما قد يحدق بها من خطر في أي لحظة، عبر هاتفها الجوال، صرخة الرّئيس التركي رجب طيب أردوغان.

صرخة واحدة، حتّى أنها لم تكن صرخة، كلمات قليلة علت على إثرها تكبيرات الأئمة وأُغلِقت مع انتهائها الممرات في وجه الانقلابين ودفعت الشعب إلى التضحية بالغالي والنّفيس.

صرخة في أنقرة، قابلتها بعد مرور سنة صرخة في الجيزة لخمسة من أفراد الشرطة المصرية، داهمهم الملثّمون على مرأى ومسمع المواطنين.

صرخة لم تكن كافية لتفعل بأفراد شعب النيل ما فعلت به صرخة الحرية بأحفاد العثمانيين، حتى أنّ الجميع شاهد مترجلين يشهدون من مسافة ليست ببعيدة احتضار الأمنيين، وسيارات تمرّ من على مقربة من جثثهم دون أن تولي اي اهتمام، وسائقي دراجات نارية يبتعدون شيئا فشيئا في برود فتبتعد عنهم صرخات المصابين.

صرختان، الأولى في أنقرة والثانية في الجيزة، ما يميز إحداها عن الأخرى لا جسارة الشعب التركي وتخاذل الشعب المصري، ولا شجاعة العثمانيين وجبن الفراعنة، فقد أثبت شعب الغلابة ذات 25 يناير إقداما لم تقدر على تجسيده آلات تصوير السّبكي.

صرختان، الفرق بينهما صناديق اقتراع حملت نظاما ديمقراطيا جعل من الحقوق سبيلا للتقدم بالبلاد، وصناديق اقتراع أخرى أبت إلا أن تحمل في أحشائها جثامين الأبرياء عوضا عن أصواتهم وتقود أول رئيس في تاريخ مصر، يستعملها للوصول إلى كرسي الحكم، إلى المعتقل بدلا من اقتياده إلى القصر الرّئاسي.

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها