العثمانيون والقدس: هل يفعلها أردوغان!

في موقف أردوغان صورة الماضي التي يجب أن نبتنيها كأجيال من التاريخ، شيئا فشيئا، لأنها صورة إنسانية مخلصة لتلك الحقبة العثمانية التي توقفت في التاريخ المعاصر عند السلطان عبد الحميد.

يعود ميلاد مدينة القدس إلى أكثر من 3000 عام قبل الميلاد، ويذكر علماء الآثار أن الكنعانيين هم أول من شيد هذه المدينة، فمنذ نشأتها تغيرت فيها القبائل والأجناس واللغات، وتعاقب عليها الخلافة والحكم، وصمدت بوجه حروب ونوائب شداد  عبر عقود مضت، غير أن احتكاكها بالسلطة العثمانية أكسبها الاهتمام، فقد عمد الحكام العثمانيون منذ مطلع وجودهم فيها إلى العناية بها واتبعوا بذلك سياسة حفظها مقدس ديني لا يقبل التفاوض عليه أبدا.

لقد اكتشف القرن التاسع عشر القيمة النموذجية للحكم العثماني في أدق مظاهره، فكانت العاطفة الإسلامية تدفع السلطان عبد الحميد الثاني إلى أن يستشعر ماضي شعبه ودولته العلية، حتى وكأنه ماضيه الشخصي، واذا كانت الهجمات من الغرب تارة أو ما عانته الدولة العثمانية من تدهور اقتصادي واجتماعي كبير، قد عبر عنه في رسالته إلى هرتزل فكتب فيها :”بلغو الدكتور هرتزل ألا يبذل بعد اليوم شيئا من المحاولة في هذا الأمر،فإني لست مستعدا أن أتخلى عن شبر واحد من هذه البلاد لتذهب إلى الغير، فالبلاد ليست ملكي، بل هي ملك شعبي، وشعبي روى ترابها بدمه، فليحتفظ اليهود بملايينهم من الذهب!”

بين تاريخ تلك الحقبة وكل حقب الحكم العثماني على المدينة ومختلف النكبات التي عاشتها المدينة بعد نكبة 1948 واحتلال فلسطين وبداية تهجير الفلسطينيين، فمع بداية  نكباتها ظهر تخاذل العرب وتنازلاتهم عنها ، فحتى اليوم لا زالت المدينة تشهد فصلا قاسيا من استمرار احتلالها.

ومن راقب بعين الاعتبار حالة الموقف العربي بعد إعلان ترامب القدس عاصمة للاحتلال الاسرائيلي، فلابد أن يحس بمثل صفعة تناله من عمق الأزمة التي وقعت فيها، وهي أزمة يجدر بنا اليوم أن نستخلص نتائجها المرتقبة.

ومع ذلك، يبقى أن نذكر اليوم في موقف أردوغان صورة الماضي التي يجب أن نبتنيها كأجيال من التاريخ، شيئا فشيئا، لأنها صورة إنسانية مخلصة لتلك الحقبة العثمانية التي توقفت في التاريخ المعاصر عند آخر حكام الدولة العثمانية، السلطان عبد الحميد الثاني.

فقد كان موقفا من أقوى مواقف الدول الإسلامية حكومة وشعبا على الإطلاق،  لقد عبر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن رفضه لهذا القرار بصورة غاضبة جدا بقوله :” لم يعد من الممكن ترك مصيرها (القدس) منذ عام1967 ، فهذا بمثابة ترك حمل لمصيره بين براثن ذئب متوحش، فالقدس قرة عيوننا، وقبلتنا الأولى”، ودعت تركيا الرئيس ترامب إلى مراجعة قراره وسحبه وهذا ماجاء في قول أردوغان مخاطبا ترامب :”انت يا ترامب ماذا تريد أن تفعل؟ أي نوع من السياسات هذه؟  القادة السياسيون لا يصبون النار على الزيت، انهم يعملون من أجل السلام!”.

وبعد  الإعلان  قادت تركيا اتصالات مكثفة مع بعض الرؤساء العرب، وقد شدد أردوغان في حديثه للبرلمان التركي، أن خطوة ترامب ستكون لها خطوات أكبر من طرف الدول الإسلامية، التي تجتمع في القمة الإسلامية باسطنبول في 13من كانون الأول ديسمبر الجاري، وقد استبقت تركيا القمة وهددت على لسان أردوغان بقطع العلاقات مع الكيان الاسرائيلي.

كل هذه المواقف سمات حقيقية للرجل الجيد الذي يقود بنفسه فكر الحاكم العثماني، فهي التي تفرض على من وجدو ا في قرار ترامب صائبا إعدادا  قبل القمة الإسلامية لمراجعة حساباتهم والأخذ بعين الاعتبار،  بأن غضبة تركيا إبان الهجوم على السفينة التركية  مرمرة وحصار غزة بشكل ما لن يكونا متشابهين كل التشابه في الوضع القائم الآن، فالقدس تمتاز   عند القيادة التركية والشعب التركي بمكانة عظيمة جدا، لكن لاريب أن يعرف بعض العرب أن فيها تعابير مماثلة وردود أفعال نستخلص منها دروسا  أن الماضي يستعيد نفسه في أشخاص آخرين دوما.

كونوا على ثقة أننا لو انسحبنا من هذه الساحات فستتحول إلى ساحة للفوضى والاضطراب أبد الدهر”. السلطان عبد الحميد الثاني.

هكذا لم  ينتهِ جهد الدولة التركية الحديثة، بطرق مختلفة إلى وضع العمل بمقتضى الحضور الفعال القوي في قضايا الأمة. وهذا ماجرى في هذه السنوات الأخيرة يؤكد تأثيرها الوجودي وما تلعبه من دور مهم في كل الساحات الدولية المرتبكة، فلسطين وسوريا والعراق وقطر،فهي اليوم تمارس حقيقتها التاريخية نفسها منذ الأزل،حتى يتراءى للعالم أين كانت وكيف عاشت فمهما لبست من التغيير أو التحول، فلم تتلاشى الميزة التي عرفت بذاتها في الماضي،وهي  أن تحافظ على أصالة الإنسان العثماني الذي ارتبط بهذه المدينة ولم تعيقه الضغوطات على أن يلتوي أمام العالم الذي يحيط به آنذاك

إن أردوغان قادر على أن يفعلها ويصبح بذلك القرار الأمريكي بنقل سفارة واشنطن إلى القدس حبرا على ورق ومجرد خبر في التلفاز سيعود التاريخ لكتاباته مع مرور الزمن ،  كما عاد الرئيس التركي لكتابة تاريخ الوثائق والآثار التي تركها مرور العثمانيون على هذه الأرض المباركة، فعاشوا لحمايتها كما لم تعش لأجل ذلك الأنظمة العربية والتي ساهمت ببيعها لا غير.

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها