السرج المذهب لا يجعل الحمار حصانا

بعد برهة من الزمن قال لي صديق يجلس إلى جواري: دعني أرك شيئاً، وضع هاتفه على الكاميرا وطلب مني الاقتراب منه لالتقاط صورة معه.

 

 خرجت للتنزه أنا وبعض أصدقائي المقربين، مللنا كل شيء كما مل الكثيرون، بينما نحن في السيارة، كنا نتحدث فرحين، ليس لأننا نتحدث إلى بعضنا البعض، فنحن منفصلون ولو أن الشكل العام أننا مجتمعون، كل منا ممسك بهاتفه المحمول، يعيش عالمه الخاص به، كل شيء نقوم به منفردين، نتحدث، نضحك، نلعب، كل شيء ولكن بمفردنا حتى ونحن مع من نحب.

بعد برهة من الزمن قال لي صديق يجلس إلى جواري: دعني أرك شيئاً، وضع هاتفه على الكاميرا وطلب مني الاقتراب منه لالتقاط صورة معه، فرحت بذلك كثيراً وغمرتني السعادة، كم هو جميل تخليد ذكرى، وكم هو جميل اهتمام الآخرين بك، ابتسمت ليتذكر مدى سعادتي عندما يستعيد الذكريات بعد شهور أو سنوات، قال لي: انتظر سأريك شيئاً، بدأ بتحويل وجهي ووجهه إلى وجه كلب ثم نحلة ثم شخص مشوه ثم غزال وفأر ثم أشياء كثيرة، يفعل ذلك ويضحك من أعماق قلبه، يغير أشكالنا وهو في قمة السعادة ويطلب من الجميع المشاهدة، الكل يضحك من الأعماق، بالنسبة لي اكتفيت بالتبسم، انتهى الموقف بالنسبة له ولهم إلا لي، لم تكن إلا البداية.

بدأت أبحث في هذا الموضوع فوجدت أن معظم الناس يفعلون ذلك، يحتفظون بصور لهم أو مقاطع فيديو وهم بأشكال مختلفة، كلب، نحلة، غزال، أشياء كثيرة أخرى، لعل أشهرها طوق الزهور الذي تجده على رأسك في صورتك، الفنانون والفنانات، معظم المشاهير لهم لقطات صور (سنابات) بهذا الطوق وبأشكال كثيرة مختلفة، نحن نعرفهم كبشر عاديين ورأيناهم، لم نعرفهم فئراناً أو غزلاناً أو حيوانات أخرى، بعض الأشخاص يحتفظون بتلك الصور لأنفسهم، آخرون يرسلونها إلى أصدقائهم ومعارفهم بأي وسيلة كانت خصوصاً بـ”السناب شوت” الذي أشغل الملايين بما يفيد وبالترهات. الصور تتطور دائماً وهناك الجديد بين الفينة والأخرى، تارة يضيفون بعض الحيوانات وتارة أخرى يضيفون أشكال مسوخ، أما نحن فإننا بكل ذلك فرحون وممتنون.

شيء جميل أن أرسل صورتي لصديقي أو لأسرتي لكي يتذكروني أو ليستمتعوا بإطلالتي، لم أفكر ولو لمرة أن أرسل لهم صورة لي وأنا على شكل كلب، هم يعرفونني كإنسان ولكنهم لم يروني كلباً في يوم من الأيام، قد تكون فرصة أن يروني كذلك أو بأي شكل آخر، نحلة، فأر، شخص مشوه، لا يهم، المهم أن يروني بشكل آخر لأنهم ربما قد ملوا من صورتي التي كرمني الله بها، أو إنني قد سئمت من تلك المكرمة وأفضل أن أكون مسخاً أو حيواناً على ما أنا عليه. 

سألت نفسي: لما نفعل ذلك بأنفسنا؟ هل وصل بنا الحال لنبحث عن الجمال في تغيير أحسن تقويم إلى حيوان، سألت الكثيرين ممن يفعلون ذلك فأخبروني أنهم يفعلون ذلك على سبيل الدعابة والمزاح والتغيير، لم أفهم ما نوع الدعابة التي يقصدون، ما الممتع في أن أغير شكلي من كائن بشري إلى مسخ يجمع بين الانسان والحيوان، أو بين الإنسان وكائنات وهمية لا وجود لها أو لعلها موجودة؟ أي دعابة وأي منطق هذا الذي نتحدث به؟ لقد كرمنا الله وأحسن خلقنا، نتضرع إلى الله رافعين أيدينا إلى السماء قائلين: يارب كما حسنت خَلقنا حسن خٌلقنا، بالمقابل نغير شكل خلق الله بهذه الأمور وغيرها وكم هي كثيرة في حياتنا، كل ما هو مطلوب منا أن ننظر حولنا فقط أو أن نتابع “السناب شات”، سنجد فيه من عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات الشيء الكثير، البعض متخصص في عمليات التجميل لأن شكله لا يعجبه، أو أن شكل أنفه ليس كما ينبغي لجمال وجهه، أو أن خدوده ليس بها غمازات، وكم هي الطلبات والرغبات؟، وكم عبثنا في أنفسنا وجرينا خلف التراهات؟، نفخ شفايف، تكبير وتصغير، شد ومد ورسم، نعبث في كل شيء فلا حدود طالما أن (الجزار) موجود، والأجر مقابل التغيير وفير وغير محدود، أصبح حال البعض في هذا الأمر كجهنم عندما يسألها رب العباد هل امتلئت فتقول هل من مزيد، بالتأكيد سمعتم هذا الأمر من قبل، كلنا رأينا ذلك وعايشناه، كل شيء مطلوب تغييره من شعر الرأس إلى أخمص القدمين، المقدمة أو المؤخرة، ولا بأس من تصوير كل ما نقوم به لنشارك به الآخرين، كم هو مهم أن يقوم أحدهم بإجراء عملية في بطنه أو صدره أو في (…) ويوثق ذلك بالفيديو ويشارك ذلك مع معجبيه ومتابعيه ومحبيه، ما أكثرهم وكأنهم لم يجدوا في هذه الحياة سوى متابعة فلان أو فلانة، حتى ونحن في غرفة العمليات ننسى الله ونتذكر “السناب شات” الذي أصبح هوس الحياة، البعض خلقه الله ذكراً فينكر ذلك ويحاول بكل الطرق أن يتحول إلى أنثى، ولا مانع من أن يعرض ذلك في “السناب” وأن يكون لديه المتابعين (الفانز) الخاصين به أو متابعيه، يلتقط صوراً له في كل الأوضاع، يلتقط الصور التي تظهره وهو في كامل أنوثته، يعرض ذلك ويتباهى به.

المصيبة الكبرى أن من يتابعون أخباره و”سناباته” بالألوف، رجال ونساء وشيوخ وأطفال، بل أن البعض يفتخر بتوثيق لحظات اللقاء بمثل هؤلاء وبثها على قنوات التواصل الاجتماعي ليراها الجميع ويشاركونهم الحدث، كم هو رائع أن أبدي اعجابي بمن يهتز له عرش الرحمن، الأروع أن أشجعه على ذلك وأعبر له عن افتتاني به وبكل ما يقوم به، على العكس تماماً إناث ذكور وكل شيء متاح وما حرمه الله أصبح في هذه الحياة مباح، كنت أذكر مقولة: “إذا ابتليتم فاستتروا”، أقارنها بواقع حالنا اليوم لأجد النقيض تماماً، تغيرت الحكمة من إذا ابتليتم فاستتروا إلى إذا ابتليتم فوثقوا وشاركوا وأنشروا، شاركوا كل ما يمكنكم مشاركته، كل شيء بلا حدود طالما أن هناك متابع (فانز) أو ما يسمونهم معجبين ومتابعين، صوروا فيديوهات لكل التفاصيل ولكل تغيير يطرأ على حياتكم، المأكل والشراب، الملابس، والحلي، المستحضرات، العلاجات، الرحلات، حياتكم الخاصة في كل أوضاعها، كم هو ممتع أن أشارك معجبيني وأرسل لهم سناب وأقول لهم أنا في صالون منزلي، ثم أنا قبل وبعد المكياج، في حديقة منزلي مع كلبي الذي سأغير وجهه إلى وجهي والعكس، أنا في حمامي أحلق لحيتي، يا لها من متعة تفوق الخيال، ومجال خصب للعطاء لم يكن في الحسبان ولا على البال، أجلس لأراقب سكنات الناس وحركاتهم لساعات طوال.

تغيرت صور كثيرة في حياتنا، كل شيء فيها تبدل، نظرتنا إلى أنفسنا، نظرتنا إلى الغير، طريقة حديثنا إلى أنفسنا وحديثنا مع الغير، تأمل بسيط وملاحظة لأنفسنا لنكتشف العجب العجاب، معظمنا دائماً ما يردد:

احباط، اكتئاب، قلق، ملل، زهق، فراغ … أما الآخرون بالنسبة إلينا فهم: حيوانات، بهائم، لا يفهمون، متخلفون، تافهون، مملون، محبطون، غير أسوياء، أغبياء، مرضى نفسانيون… ألفاظ كثيرة يمتلئ بها قاموسنا النقدي نطلقها على الآخرين وكأننا ملائكة تسير على الأرض، مازال القادم أدهى وأمر، إن كنا قد لغينا العقل والتفكير ونسينا التأمل والتدبير، وبتنا نعيش حياة مادية خالية من الضمير، حتماً سنهوي أكثر مما هوينا، اسأل الله أن يستر علينا، وأن يرينا طريق الحق وأن يهدينا.
 

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها