البطاوي من محبسه يكتب: بؤساء فيكتور هوجو في طرة

على غير موعد؛ عادت من جديد رواية “البؤساء” لتستقر بين يدي، تلك الرواية التي خالطت أحداثها وقائع من الثورة الفرنسية مسجلة أبطالا مغمورين.. يتبع.

محمد البطاوي: صحفي بجريدة الأخبار المصرية ومعتقل منذ 17 يونيو 2015

على غير موعد؛ عادت من جديد رواية “البؤساء” رائعة فيكتور هوجو لتستقر بين يدي، تلك الرواية التي خالطت في أحداثها وقائع من الثورة الفرنسية مسجلة أبطالا مغمورين لم يكونوا إلا طلابا نزفوا دماءهم في سبيل إرساء الجمهورية المنشودة.

ولأن الوقت يمر بطيئا، والكتب والروايات في “استقبال طرة” شحيحة، فقد اخترت مكرها -في البداية- إعادة قراءتها من جديد، وفارق بين القراءة الأولى والثانية، بين قراءة أوراق جديدة لم تمسها يد، على ساحل البحر وتحت السماء الصافية والوضع السياسي مختنق عام 2009 تقريبا، وأن تقرأها من أوراق بالية تضمها خيوط مهترئة بين القضبان والمعتقلين.

لم يلفت نظري في هذه المرة البطل القديس “جان فالجان” أو “كوزيت” الصغيرة، ولم أهتم كثيرا بوصف حدائق لوكسمبورج أو دروب سانجرمان.
لكن ما صدمني حقا هذه المرة، ذلك الشبه الواضح بين أعضاء جمعية أصدقاء الشعب أو أصدقاء السوقة وبين معظم المعتقلين من حولي، ولولا أنني سبق لي قراءة الرواية سلفا، لتخيلت أن تحديثا ما جرى على نصها ليوافق الشباب الذين تزخر بهم الزنازين.

لقد عمد “هوجو” إلى وصفهم بدقة صامتة، حتى لكأنه يسخر مني ويتوارى في عنبر مجاور يرقب حيرتي، أليس هذا الشاب بصفاته القيادية الحازمة هو من أشار  إليه فيكتور تجت اسم “أنجولرا”؟
وذلك الشاب المرفه الذي لم يمح السجن أثر النعيم الواضح أنه تربى عليه أليس “كوريفيراك”؟
أما ذلك الذي يثير غثياني واشمئزازي كلما تحدث عن إيمانه بأن النظام لن يرحل والثورة لن تنتصر إلا بالعنف، ميله وثقته في العنف تخيفني أنا الذي لم أتعود على غير الورقة والقلم، لكن.. أليس هو من يحمل في البؤساء اسم “ليجل”؟

وأولئك الشباب الصغار الذين تخطت أعمارهم بالكاد الثامنة عشرة، أو من هم أصغر سنا ويقابلوننا عند العرض على النيابة، ما بالهم يبتسمون رغم هول الموقف وقسوة المحنة إنهم ينطلقون غير مبالين بما حولهم، هم الذين أسماهم في الرواية “جافروش” الصغير.

حتى ذلك السكير الذي اختار في النهاية أن يدفع حياته مقابل أن يموت بجوار “أنجولرا” رغم أنه عاش لاهيا لا يبالي إلا بالخمر، منه نماذج هنا اختارت أن تقف مواقف كلفتها حريتها وقد تكلفها حياتها رغم أنها لا تؤمن بالثورة ولا بمبادئها ، لكنها لا تزال سعيدة راضية أنها سيقت للزنزانة في موقف رجولي من وجهة نظرها.
هكذا بقيت أقرأ الشخصية في الرواية وأراها واقعا فيمن حولي من أصحاب الملابس البيضاء، أو أنظر إلى الشخص وأتعرف عليه ثم أقرأ في ذهول فيكتور هوجو يصفه باقتدار.
هل كل الثورات متشابهة هكذا حتى في رجالها؟

سؤال خفت أن أجيب عليه، بل ارتعدت فرائصي بشدة من مجرد المقارنة، فالإجابة المنطقية ستجر سؤالا آخر: وهل كل مصائر أولئك الرجال واحدة؟
أغلقت الرواية بعنف عندما وصلت إلى ما نزل بأعضاء جمعية أصدقاء الشعب، لقد قضوا جميعا واحدا تلو الآخر وليس على لسانهم إلا الهتاف بقضيتهم: “تحيا الجمهورية الفرنسية”.. جافروش الصغير رحل مؤمنا بالهتاف الذي ردده الثوار الفرنسيون البؤساء.

أما بؤساء طرة، فأخشى ما أخشاه عليهم أن يلحقوا بثوار هوجو وليس على شفاههم إلا: “تحيا الثورة المصرية”.
بقي أن أتشبث ببصيص الأمل الذي يتركه التاريخ منبعثا، وتلك البارقة التي تلمح إليها رائعة هوجو، وهو أن من بين أولئك أيضا انبعث “ماريوس” إلى الحياة بعدما كاد يلقى حتفه ونجا من جنود الملك وعاش هانئا إلى جوار حبيبته “كوزيت”.

أما أنجولرا وكوريفيراك وليجل وجافروش، فبعد رحيلهم بأعوام رحلت الملكية عن فرنسا إلى غير رجعة، وتوطدت دعائم الإمبراطورية التي حلموا بها.. “وعاشت الجمهورية”.ولأن الوقت يمر بطيئا، والكتب والروايات في “استقبال طرة” شحيحة، فقد اخترت مكرها -في البداية- إعادة قراءتها من جديد، وفارق بين القراءة الأولى والثانية، بين قراءة أوراق جديدة لم تمسها يد، على ساحل البحر وتحت السماء الصافية والوضع السياسي مختنق عام 2009 تقريبا، وأن تقرأها من أوراق بالية تضمها خيوط مهترئة بين القضبان والمعتقلين.

لم يلفت نظري في هذه المرة البطل القديس “جان فالجان” أو “كوزيت” الصغيرة، ولم أهتم كثيرا بوصف حدائق لوكسمبورج أو دروب سانجرمان.
لكن ما صدمني حقا هذه المرة، ذلك الشبه الواضح بين أعضاء جمعية أصدقاء الشعب أو أصدقاء السوقة وبين معظم المعتقلين من حولي، ولولا أنني سبق لي قراءة الرواية سلفا، لتخيلت أن تحديثا ما جرى على نصها ليوافق الشباب الذين تزخر بهم الزنازين.

 
لقد عمد “هوجو” إلى وصفهم بدقة صامتة، حتى لكأنه يسخر مني ويتوارى في عنبر مجاور يرقب حيرتي، أليس هذا الشاب بصفاته القيادية الحازمة هو من أشار  إليه فيكتور تجت اسم “أنجولرا”؟
وذلك الشاب المرفه الذي لم يمح السجن أثر النعيم الواضح أنه تربى عليه أليس “كوريفيراك”؟
أما ذلك الذي يثير غثياني واشمئزازي كلما تحدث عن إيمانه بأن النظام لن يرحل والثورة لن تنتصر إلا بالعنف، ميله وثقته في العنف تخيفني أنا الذي لم أتعود على غير الورقة والقلم، لكن.. أليس هو من يحمل في البؤساء اسم “ليجل”؟.


وأولئك الشباب الصغار الذين تخطت أعمارهم بالكاد الثامنة عشرة، أو من هم أصغر سنا ويقابلوننا عند العرض على النيابة، ما بالهم يبتسمون رغم هول الموقف وقسوة المحنة إنهم ينطلقون غير مبالين بما حولهم، هم الذين أسماهم في الرواية “جافروش” الصغير.

حتى ذلك السكير الذي اختار في النهاية أن يدفع حياته مقابل أن يموت بجوار “أنجولرا” رغم أنه عاش لاهيا لا يبالي إلا بالخمر، منه نماذج هنا اختارت أن تقف مواقف كلفتها حريتها وقد تكلفها حياتها رغم أنها لا تؤمن بالثورة ولا بمبادئها ، لكنها لا تزال سعيدة راضية أنها سيقت للزنزانة في موقف رجولي من وجهة نظرها.

هكذا بقيت أقرأ الشخصية في الرواية وأراها واقعا فيمن حولي من أصحاب الملابس البيضاء، أو أنظر إلى الشخص وأتعرف عليه ثم أقرأ في ذهول فيكتور هوجو يصفه باقتدار.
هل كل الثورات متشابهة هكذا حتى في رجالها؟
سؤال خفت أن أجيب عليه، بل ارتعدت فرائصي بشدة من مجرد المقارنة، فالإجابة المنطقية ستجر سؤالا آخر: وهل كل مصائر أولئك الرجال واحدة؟

أغلقت الرواية بعنف عندما وصلت إلى ما نزل بأعضاء جمعية أصدقاء الشعب، لقد قضوا جميعا واحدا تلو الآخر وليس على لسانهم إلا الهتاف بقضيتهم: “تحيا الجمهورية الفرنسية”.. جافروش الصغير رحل مؤمنا بالهتاف الذي ردده الثوار الفرنسيون البؤساء.
أما بؤساء طرة، فأخشى ما أخشاه عليهم أن يلحقوا بثوار هوجو وليس على شفاههم إلا: “تحيا الثورة المصرية”.

 
بقي أن أتشبث ببصيص الأمل الذي يتركه التاريخ منبعثا، وتلك البارقة التي تلمح إليها رائعة هوجو، وهو أن من بين أولئك أيضا انبعث “ماريوس” إلى الحياة بعدما كاد يلقى حتفه ونجا من جنود الملك وعاش هانئا إلى جوار حبيبته “كوزيت”.


أما أنجولرا وكوريفيراك وليجل وجافروش، فبعد رحيلهم بأعوام رحلت الملكية عن فرنسا إلى غير رجعة، وتوطدت دعائم الإمبراطورية التي حلموا بها.. “وعاشت الجمهورية”.

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها