احذروا المواطن الصالح الجبان

في وطني تونس لصوصٌ كثيرون، منهم من اختار السّطو على البنوك، ببدلة فخمة وربطة عنق، ومنهم من سرق قمصانيَ المستعملة، فصيّرها موضةً يتباهى بها الأثرياء.

كانت واحدة من تلك السّهرات بإحدى الحاناتِ الفخمة الّتي دأب أقراني على ارتيادها، مُكرهًا وجدت نفسي هناك والموسيقى الصّاخبة تصمّ أذنيّ والجموع من حولي يرقصون.

كان كلّما نظر أحدهم إلى قميصي الذي اقتنيته من سوق الملابس المستعملة، سروالي المهترئ وحذائي الملوّث، إلاّ وتفطّن إلى أنّي غريب عن ذلك العالم، وكنت، أقلّب المكان بناظريّ، أهرب من أعين الحاضرين، فأحدّق بالجدران والأضواء تزيّنها، أتفحّص السّقف تارة منصّة اعتلتها فرقة غنائيّة مكوّنة من أربعة اشخاصٍ تارة أخرى، لوّح قائدهم بيديه فتوقّفت الموسيقى، وانطلق هو في الغناءِ ومن ورائه يعزفُ زملاؤه.

في وطني تونس لصوصٌ كثيرون، منهم من اختار السّطو على البنوك، ببدلة فخمة وربطة عنق، ومنهم من نهبَ البترول والفوسفات والثروات الطّبيعيّة، وآخرون احتكروا مواطن الشّغل، فتسمع حثيثهم صباحا في الإذاعات ولغوهم مساءً على شاشات التّلفاز. ومنهم، من سرق قمصانيَ المستعملة، فصيّرها موضةً يتباهى بها الأثرياء. ولصُوصٌ سرقوا الأغاني.

أذكُر أنّي ذات مرّة مررتُ بأحد الأحياء الرّاقية، وإذ بسيّارة فاخرة تركبها ثلاث فتياتٍ والموسيقى تنبعثُ من أبواقها وألحانُ أغنيةٍ، قديمة-جديدة، تهزّ الأرجاء.

يا حمامة طارت” كانت الأغنية، لم يجد أحدهم غيرها، ليحوّلها من كلماتٍ ردّدتها فتاةٌ ريفيّة، بعيدةٌ عن ذويها، زوّجوها غصبًا، فلم تجد إلاّ الطّائر تخاطبه، إلى صيحاتِ بهجةٍ تنطلقُ من حناجرِ الأثرياء.

ومغنّي الفرقة الّتي اعتلت منصّة الحانة كان واحدًا من لصوص الأغاني، ولعلّه تعمّد ذلك، أو ربّما هي الصّدفة، فلا أظّنه من الحافظين لتاريخِ إعدامِ المقاوم، تغنّى بمحمّد صالحِ الدّغباجي، مردّدا أغنية من التّراث بطريقة عصريّة بشعة.
وددتُ في ذلك الوقتِ لو أنّ لي ما يكفي من الجرأة لأصيحَ فيه وفي الرّاقصينَ على أنغامِ البطل المشهور، ولكنّيَ من أولئك المواطنين الصّالحين، بالكادِ أتحدّث مع الآخرين، لا طموحَ لي وما لقلبيَ الضّعيف قدرة على المخاطرة؛ فسكت.

سكوتيَ كان ولايزال سبب علّتي. في صغري كنتُ أمقت ابن جارنا، فتى في عمري. كنّا آخر عنقودِ حيّ شعبيّ، وكان الأفضل في نظرِ كبارِ حارتنا، يشاركهم مبارياتِ كرة القدم بينما أجلسُ بعيدا أشاهدهم رغمَ أنّيَ أتقنتُ التلاعُب بالساحرة المستديرة أكثر منه. لكنّ جرأته، أو ربّما هي وقاحته، فقد اختلط المعنيان في تونس، مكّنته من أن يصبحَ الفتى المدلّل. وأمّا أنا، فأظّنهم لم يلحظوا وجودي يومًا.
قليلًا ما كنتُ أنضمّ إليهم، وإذا ما فعلتُ، التزمت الصّمت خوفًا من أن أصبِحَ مصدرًا للسّخرية. هكذا كنتْ، طفلاً مسالما، كان أبناءُ التي يستغلّون وهني فيسرقونَ أو يفتكّون ألعابيَ، وهم على ثقةٍ بأنّي لن أطالبَ بحاجياتي.
واليوم، أجدني شابّا وقد بلغَ من العمر خمسا وعشرينَ سنة، واللّصوصُ الأثرياء أماميَ يتباهون بمتاعيَ، بأقمصتي وأغانيّ، وما لي قدرةٌ بهم، أو لعلّه الخوف.

الحقيقة أنّ المرّات الّتي تنازلتُ فيها عن حقّي، كثيرة، والأسبابُ مختلفة، فإمّا لتجنُّبِ المهاتراتِ العقيمة، وإمّا خجلاً أو خوفًا، وأحيانًا طيبَةً أو سذاجة. أتذكّر أنّي عندما كنتُ أقطنُ بـ”الصّباغين” حيث البناياتُ المهشّمة والفقر المدقع، كنتُ أذهبُ مساءً إلى قاعةِ الألعابِ للعبِ كرة القدم الافتراضية. القوانينُ حينها كانت تُجبرُ المنهزِمَ في المباراةِ على سداد كامل المبلغ، فكنتُ إذا ما شعرتُ بأنّ منافسي في حاجة إلى ما يملكه من ملّيمات فأراه يصرخُ ويستشيطُ غضبًا، أتعمّد الخسارة حتّى لا أكسرَ قلبه.
وها أنا بنفسِ تلكَ السّذاجة أستمعُ إلى أعضاءِ الحكومةِ ورئيس الدّولة، إلى رئيس أكبر حزبٍ، ولو كذب البائسون، حركة النّهضة، إلى نوّابِ البرلمان، يُطالبونني بأن أبقى مواطنًا صالحًا، وأصبر تماما كما صبرتُ لخمسٍ وعشرينَ سنة.
لا أُخفيكم سرّا، سأصبرُ مرغما، فلستُ من ذلك النّوعِ الشّجاعِ الّذي يقفُ صامدًا أمام سيّارات الشّرطة والحجارةُ في يديه، وما أنا من حملةِ الشّماريخِ بالملاعبِ، قليلاً ما أذهبُ لمشاهدة فريقيَ المفضّل أصلا، حتّى أنّي، ومنذ أن استفحلت ظاهرة العنفِ بالمدارجِ وعاد رجالُ الأمن إلى جبروتهم، اتخذت من المقهى مكانًا لمتابعةِ المباريات.
سأصبِرُ مُرغمًا، ولن أكونَ متمرّدا بأموالٍ إماراتيّةٍ أو سعوديّة، فبمجرّد أن أتخيّل السّيناريو المصريّ في بلدي، يضيقُ
صدري. وبمجرّد أن أفكّر بإمكانيّة حدوثِ ما حدث لزبيدة، الفتاةُ المصريّة الّتي اختطفها زبانيةُ السيسي فاغتصبوها وعذّبوها أجبروها قبل يومين على الظّهور على شاشاتِ التّلفاز والقول ودموعُ القهر تنهمِرُ من عينيها بأنّها لم تكن مختطفة وإنّما هربت مع عشيقها، مجرّد التفكير في إمكانيّة حدوثِ كلّ هذا، لفتاةٍ تونسيّة، يقطعُ أنفاسي.

سأصبرُ مرغمًا، لجُبْنٍ أو حكمةٍ -لا أدري حقيقةً- ولن أضعَ نفسي تحت تصرّفِ جيشٍ أجنبيّ، كالنّقاباتِ مثلاً، فأغلِقَ المدارسَ وأنهبَ البترول وأقتحِمَ المصانع والمحاكم وأُهدّد القضاة وأحتلّ الشّوارعَ والطُّرقات، ليحكمني في النّهاية، ديكتاتورٌ وطنيّ، على رأي سالم الأبيض، يبعثُ بالبراميلِ المتفجّرة تهدّم منزلي وبالكيمياويّ يخنِقُ أطفالي ويغتصب زوجتي أمام ناظِريّ كما في سوريا.

سأصبرُ، لثقتي بأنّهم أفّاكون، ولن أُصغيَ السّمع للقابعينَ أمامَ مصاديح المذاييع وآلات تصوير القنواتِ التلفزيّة والمدجّجينَ بالأقلام، أولئكَ الّذينَ باعوا الأرضَ والعرض مقابل زينةِ الحياة الدّنيا، ولن أفتكّ حسائرَ الجوامع ولن أقف في صفّ بشّار الأسد ولن أصيحَ بسحل الإخوان المسلمين. لن أفقد الأمل في كلّ استحقاق انتخابي، سأُدلي بصوتي في كلّ مرّة. لن أقبلَ بحلّ البرلمان ولا العودة إلى نظام حكم الفرد الواحد ولن أعاديَ تركيا ولا قطر ولا منظّماتِ المجتمع المدني ولا المحامين.

لن أؤيّد إعدامَ المتّهم قبل ثبوتِ تورّطه. سأصبِر، لجبْنٍ يُكبّلني، ولكنّ الجُبْنَ قد يشتدُّ أحيانًا، فترى صاحبَهُ وقد زأرَ كاللّيث. ذاتَ ظهيرةٍ شاهدتُ وثائقيّا حول عالمِ الحيوان.. فهودٌ وقد حاصروا زرافةً حديثةَ الولادة، يتبعونها وأمّها أينما ذهبنَ في انتظار الفرصة المناسبةِ للانقضاض عليها.
ولمّا لم تجد الأمّ جدوى من الفرارِ وحين انقطعت بها السّبُل واشتدّ بها الخوفُ، انتفضت وراحتْ تركلُ الحيواناتَ المفترسة بكلّ ما أوتيَت من قوّة. ومحدّثكم كما الأمّ أعلاه، تحاصرني الوحوشُ من كلّ جانب. أبناءُ زايِدَ بأحزابهم وجواسيسهم وإعلاميهم. سياسيّونَ بأذرُعِهم النّقابيّة. رجالُ أعمالٍ بزبانيتهم وعبيدهم. كلّ منهم، ينتظِرُ الفرصةَ المناسبةَ للانقضاض على جسدي النّحيل، يطبِقُ أحدهم في كلّ مرّة بأنيابهِ، هذا يحرقُ ويُخرّبُ، وذاك يُعطِّلُ ويُهدّد وثالثهم يرفعُ الأسعار وينهبُ ويظلم.. ومحدّثكم تكادُ تنقَطِعُ به السّبل وقريبًا لن يعود للهربِ جدوى خاصّةً وأنّ الحاكمينَ مازالوا يدعونني إلى مزيدٍ من الصّبر من دون أن يُكلّفوا أنفسهم حتّى عناءَ توفيرِ بصيصٍ من الأملِ يُطيلُ من أنفاسي.

فماهم للّصوص من رجال الأعمالِ مُطارِدون، وما هم لجماحِ النّقاباتِ الظّالمةِ كذابحون وما هم للأفّاكين من مجرمي الإعلامِ مُعاقبون. الأسعار تحرقنا كما تحترقُ مضاجع الطّلبة دون توقّف منذ أسابيع، والنّقاباتُ مؤخّرا تمرّدت، كما الانقلابين في تركيا، فتسلّق أفرادها أسوارَ المحاكم. اللّغو أصبحَ مادّة البرامج التّلفزيّة والفساد يختطفُ أطفالنا في المدارسِ والمعاهد.

الجريمة في ازدياد والعنفُ في كلّ الأرجاء. الفقيرُ يزدادُ فقرا والأثرياءُ يقولونَ هل من مزيد. وأنا المواطنُ الّصالحُ الجبان، سأصبر، ولكنّ الخوف قد تمكّن منّي وكلّ السّبلِ انقطعت، وخوفي كلّ الخوف أن أجد نفسي بمدارج الملاعبِ والحزامُ بيدي، تماما كالشّبان الذين التقطتهم الكاميرات في مباراة الترجي الرياضي التونسيّ والنّجم السّاحلي. أو في الشّوارعِ أرمي بالحجارة في اتجاه العربات المصفّحة وأعوان الأمن، أحرقُ العجلات وأهشّم واجهاتِ المحلاّت. خوفي كلّ خوفي، أن أجد نفسي قريبًا، مرغما، وقد صرتُ جنديّا تحت تصرّف جيشٍ أجنبيّ.

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها