إلى رفيق السجن

على أعمدةِ ذاتي التي بنيْتَها أنظمُ كلماتي، لربما كانت كلماتُكَ طِوالَ مكوثنا سوياً تنطلقُ مندفعةً إلى طريقِ رشدي، ولطالما رصفتُ طرقي ممهداً لاستقبالها، والآن عبَّدْتُ آلافَ الطرقاتِ بانتظارِ نفحةٍ من عباراتكَ، ولكنَّها جميعها باتت مهجورةً لا حياةَ فيها، خمسُ سنواتٍ كانت ترسمُ آلافَ سنينَ مضت بعشرِ سنينَ واكبتْ ما أُلنا إليه، كغريقٍ تعلَّقَ بقشةٍ كانَ تعلُّقي بكَ بحياةٍ لم تكنْ تتجاوبُ مع ما أحاولُ التأقلمَ عليه كأنها التلاشي لذاتي!

من قالَ إنَّ السجنَ كما الصبَّارِ كلَّما ازدادت سنون العيشِ فيه ازدادت النفسُ حدة؟ فلربما مصادفةٌ تجمعُ بينكَ وبينَ أيِّ سجينٍ تقتلُ تلكَ الصبّارة وتزرعُ ريحانةً بمكانها! من قالَ إنّ علقمَ السجنِ لا يستساغ إلا إذا لم يكن؟ هل يا تُرى جرَّبه مع مزاحِكَ الظريفِ محاولاً تخفيفَ وطئةِ الألمِ عنَّا؟

كالشّهدِ كنت وأعلمُ أنّكَ الشهدُ بذاتهِ الآن في مسكنكَ الذي حللتَ به، تنثرُ رونقاً وكأنّه من ضياء، أتعلمُ ماذا؟ لم أؤمن بالخرافاتِ يوماً ولكن على يديكَ آمنت! فلطالما كانت قصةُ مصباحِ علاء الدينِ محطَّ سخريةٍ في عقلي، والآن يُحارُ هذا العقلُ بالبحثِ عن المصباحِ الذي مسحهُ على جانبيه لتخرجَ لي أنت! الفرقُ بينكَ وبينَ مصباحِ علاء الدين واحد، ذاكَ يحققُ ثلاثَ أمنياتٍ فقط، أما أنتَ تعيدُ تشكيلَ الأمنيَّاتِ لأخرَ واقعيةٍ لا عددَ محدوداً فيها!

ولطالما كانت حياتُكَ كأحجيةٍ أحاولُ فكَّ شفراتها يومياً، المشكلةُ أنَّكَ تضيفُ لغزاً جديداً عليها كلَّ يوم.

ومازالَ تفسيرُكَ لسؤالي لكَ عن سببِ تجسيدكَ للحريةِ في كلماتٍ تخطُّها في كلِّ مكانٍ تصلُ إليه يجعلني أدورُ حولَ نفسي مستنجداً بقشةٍ أخرى أتعلقُ بها من غرقي بفكركَ!

أجبتي: لطالما كانت الكتابةُ حريةً عفويةً يجهلُها من يرافقُ الكتبَ من دونَ التفكيرِ في خطِّ كلماتٍ تُجابهُ الكتابَ الذي يقرأ!

والغريبُ تجسيدكَ للسجنِ في هيئةِ كلماتٍ أيضاً وعندما سألتكَ:

= الحريةُ وجسّدتها في كلمات لأنك ترى الكتابةَ حرية.

وأضفتُ ساخراً: والآن هل ترى الكتابةَ سجناً؟

ابتسمتَ وأجبت: بل أحاولُ تقييدَ السجنِ بكلماتٍ يعجزُ هو وغيرُه فكَّ قيدهُ منها.

عجيبٌ أنتَ!

كيفَ لسجينٍ يحيا حياةً تفتقرُ إلى الحياةِ بأن ينثرَ عبقاً مثلكَ أنتَ!

يومانِ فقط بعدَ قدومكَ إلى زنزانتنا استغرقتهما لتُعيدَ بعثرةِ ما مضى من محكوميَّتِنا الأزلية، بالنسبةِ لعاجزٍ مثلي، عشرَ سنين كنتُ قضيتها قبلَ لقائنا، رأيتهنَّ كهباءٍ منثور من فلسفاتكَ المنطلقة من عقلٍ مسجونٍ ومعبَّقٍ بدراسةِ الحرية كرسالةِ دكتوراه، تقاتلُ حتى نفسكَ للحصولِ على امتيازٍ بها، وتجاهدُ بالامتيازِ ذاك عقولاً مثلَ عقولنا التي فرضت روتينا على حياتنا أضفى سأماً من الحرية ..

وأذكرُ صورتي التي عكسَتها عيناكَ وأنتَ تضحكُ على وجهي الذي أظهرني كأبلهٍ يسيرُ في الطرقات.

كنتَ وقتها جالساً في زاويةِ الزنزانةِ منطوياً على ذاتك، تمسكُ ورقةً وقلماً، والمثيرُ للدهشةِ أنّكَ لا تخطُّ حروفاً بل تخطّ أرقاماً هذه المرة، وقبلَ أن أنطقَ بأيِّة سخافةٍ تلقيني في هاويةٍ لا تُقارنُ بنعيم منتقياتك، قلتَ لي:

= أعِدُّ الأيامَ الي قضيتُها هنا والتي تبقت لي.

أجبتكً بصدمةٍ يشوبها استغرابٌ واضح:

= هل أنتَ جادٌ في كلامك؟

أجبتني ببرودٍ ينافي الوضعَ الذي وضعتي به:

= لمَ لا؟

صرختُ قائلاً:

= هل تعلم كم محكوميَّتك؟ هل ستبقى ألفَ عامٍ تُشغلُ ذاتك بحسابٍ كهذا؟

= يا رجل مالكَ بأرقامهم البلهاء تلك.. ربما سأعيشُ ألفاً ما يدريكَ أنت؟ وربما سأخرجُ قبلَ ذلك ما يدريكَ أيضاً؟

يومها آمنتُ وأقسمتُ أنّكَ إما ملاكٌ أو أنّني جننتُ في عقلي ويُهَيَّؤُ لي أشياءُ لا علمَ لكَ بها.

آهٍ فقط من هذه الزنزانةِ الموحشة.

آهٍ لو تدري كم وَضُحَ قُبْحُها منذُ رحيلك.

وآهٍ لو تعلمُ أنّني أكتبُ الآن وأعلمُ جيّداً أنّني سأمزقُ الورقةَ بعد الانتهاء منها وقبلَ أن يصلَ نِتاجُها إليك..

وآهٍ لو تعلم أيَّ جنونٍ مسّني؟ أصبحتُ أسألني بلسانك، وأجيبني بلساني، وأستحمقُ نفسي بلسانكَ، وأخرجُ أبلهَ بصورتي.

هكذا هو غيابكَ عني، مسٌّ من الجنون وإخفاقٌ في الاستمرارِ بالبناءِ الذي تركتَ أعمدتَه مشيّدةً.

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها