أُمّةٌ من عجائب الدنيا

من أهداف الهيئة الجديدة منع استفراد السعودية بإدارة المشاعر المقدسة

تعددت نظرات المحللين والمتابعين لأحوال الأمة الإسلامية اليوم، بين شفقة تتسم بالحزن، وحسرة توصف بالتشاؤم، وبين نشوة يعلوها الحقد، وشماتة تفوح منها العداوة.

تعددت نظرات المحللين والمتابعين لأحوال الأمة الإسلامية اليوم، بين شفقة تتسم بالحزن، وحسرة توصف بالتشاؤم، وبين نشوة يعلوها الحقد، وشماتة تفوح منها العداوة؛ وُحق لهؤلاء جميعا أن ينحوا هذه الجهة أو تلك.
فالأحداث جسيمة، والواقع أليم، والمصاب فادح؛ مما يجعل الصديق حيرانًا والعدو فرحانًا، ولكن ما ينبغي أن يغيب عن ساحة الأمة في وقت أزماتها الخانقة وبين هذه التحليلات والتوصيفات المتباعدة من يدركون حقيقة هذه الأمة، ويعرفون تاريخها، ويؤمنون بكينونتها، ويتلمسون نهضتها، فهؤلاء وغيرهم من العقلاء والمنصفين، من المسلمين وغير المسلمين، لا يسعهم إلا أن يقفوا أمام هذه الأمة وقفة إعزاز وإكبار، وإعجاب وافتخار بماضيها وحاضرها ومستقبلها.

فهي أمة يميز الله بها الخبيث من الطيب، ومن خلال وجودها بجعل الله الخبيث بعضه على بعض، فلولا ثبات أبنائها الصادقين على المبادئ الربانية، وصمود أحرارها الأشاوس أمام الجبابرة الطغاة وضد التحالفات الباطشة، ما أدركنا حقيقة حكّامٍ تجردوا من صفات الإنسان، ولا رأينا وضاعة الفكر، وسفاهة الأيدولوجيات، ووحشية من يسمون بالساسة والنُخَب، ولا أبصرنا نفاق من لبسوا عباءة الدين ومسوح العابدين وتملقهم في المجالس والفضائيات، ولا تأكدنا من زيف الشعارات وبطلان الهتافات التي تنادي بحقوق الإنسان والحيوان. فها هم منافقو العصر يخرجون من جحورهم، يجاهرون بالعداوة لكل فضيلة ومكرمة، وهاهم الغالون المدعون اتباع السلف يسلم شرار الناس منهم، وتسلط سيوفهم وألسنتهم على عباد الله الصالحين. وهاهم من انتسبوا إلى الإسلام اسمًا، وخدعوا الناس بطقوسهم ومظاهرهم، يخلعون ربقة الدين كاملة، ويرتمون في أحضان كل الملل والنحل إلا ملة إبراهيم: الحنيفية السمحاء.

إنها أمة تنفي الخبث، وتكشف الزيف، وتفضح الماكرين، كل حين بإذن ربها، كالكير ينفي خبث الحديد، ويجلو الفضة من الغبش، فلولا مرحلة الاستضعاف الحالكة والابتلاءات المتلاحقة التي تمر بها الأمة اليوم ما اشرأبت أعناق الأقزام، وما تجرأ الخانعون، وما كُشف لثام المرجفين، وما سُطرت قوائم الأشرار الخائنين على مدار التاريخ؛ بدءًا بأبي جهل (فرعون هذه الأمة)، ومرورا برأس المنافقين (عبد الله بن أبي بن سلول)، والأفاك مدعي النبوة (الأسود العنسي)، والحاقد المخادع بالزور (عبد الله بن سبأ)، وقاتل الفاروق(أبي لؤلؤة المجوسي) … وغيرهم ممن لفظتهم هذه الأمة ووسمتهم بما يستحقون على مدار التاريخ وحتى يومنا هذا.

إنها أمة يصفو معدنها، وتقوى جذورها، وتُصنع كوادرها، وينهض قادتها، ويستشرف مستقبلها من خلال الشدائد والعقبات التي تحل بها، كالذهب يعرف أصيله وزيوفه، وتصاغ أشكاله، وتقدر قيمته في أعلى درجات انصهاره. فها هم أبطال الميادين وأسود الساحات من الشباب اليافع والنساء الحرائر والشيوخ الشُّم، يرسمون بتضحياتهم صفحات مشرقة تأبى الضيم والاستسلام، وترفض الخنوع والإذلال أمام جرذان الطغيان وعبدة الطاغوت، ليكونوا ضمن شامات الركب الأول وأعلام الصمود والتضحية عبر التاريخ، أمثال: سمية(أم عمار)، خباب بن الأرت، وخبيب بن عدي، مصعب بن عمير، وتماضر بنت عمرو(الخنساء).

وما زالت هذه الأمة حتى يومنا تقدم للبشرية نماذج الرجولة والوفاء والعزة والإباء، تجدهم، هناك في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، يسطرون ملحمة التحدي والرباط في سبيل الحق والكرامة، فيخترقون حواجز المستحيل بالإرادات الفتية والعزائم الصادقة، لينالوا أعلى المناقب ومنازل العظماء الذين صنعتهم هذه الأمة وأعلت قدرهم، أمثال: (حمزة) أسد الله المغوار، و(خالد بن الوليد) سيف الله البتار، و(سلمان الفارسي) مهندس الخندق المقدار، مرورا  بأبطال التحرير وقادة الحرية سعد ابن وقاص، وقطز، وبيبرس، وصلاح الدين… وغيرهم من القادة والأعلام الذين ما زالت هذه الأمة تصنعهم على عينها، وتقدمهم للبشرية هداة وأعلامًا، ورموزا للحرية والاستقلال.

إنها أمة ولادة بطبعها، لا تفنيها الهزائم، ولا تزيلها المحن، بل هي كما قال القائل: “وَإِنِّي مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ عَرَفْتَهُمْ إِذَا مَاتَ مِنْهُمْ سَيِّدٌ قَامَ صَاحِبُهْ نُجُومُ سَمَاءٍ كُلَّمَا غَابَ كَوْكَبٌ بَدَا كَوْكَبٌ”، فهي تصنع بنفسها مجدديها وباعثي النهضة في جميع شئونها جاء في الحديث: ” إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها” من الساسة والعلماء والحكام والحكماء والفقهاء من الصالحين والمصلحين، بدءًا بعمر بن عبد العزيز، وأحمد بن حنبل، ومرورا بالغزالي وابن تيمية، والعز بن عبد السلام، ومحمد الفاتح…. وغيرهم من عمالقة التجديد والتطوير وبخاصة في تاريخ الأمة القريب وحاضرها.

وأقصد بهذه الأمة: هؤلاء الذين صنعتهم مقوماتها، وصهرتهم أدواتها، وشحذت همتهم مآثرها التليدة، وحركت إبداعاتهم حضارتها الفريدة، وقوت عزيمتهم سنة التدافع والتناوش، وأحيت أرواحهم تضحيات أفرادها، فعزموا صادقين على أن يعيشوا أحرارًا أبطالا، أو أن يكونوا سببًا في صناعة الأحرار الأبطال، أو فداءً للحرية والعدالة وكرامة بني الإنسان.

وليس المقصود بهذه الأمة هؤلاء التابعين لسيادة الهوى وسلطة الإجرام، ولا الأذناب الذين سجدوا للمتع وعبدوا الشهوات، وقدسوا المناصب والواجهات، وتاجروا بمبادئ الأمة وأعراضها، فهؤلاء سم زعاف يرتع داخل كيان الأمة ليفسد فضاءها النقي، ويتلف أواصرها المتينة؛ ويستحل حراماتها التليدة؛ فهؤلاء أشد خطرًا على كيان الأمة واستقلالها من الأفعى السوداء التي لا قيمة لها حين يُنتزع سمها.

 ما أحوج العالم في طريق عودته الحتمية إلى إنسانيته المفقودة، وكوكبه البشري، إلى هذه الأمة العجيبة، عندما تفيق من غفوتها، وتوحد صفها، وتنهل من معينها، وتحدد هدفها، وتعمل لغايتها، فتسطع بهداية الحق المرتقبة لتنشر السلام العادل، وتضئ الظلام القاتم، وتأخذ على يد الظالم الباطش. يقول تعالى: “كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله”.

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها