أنا في مأمن من نفسي

في البداية كنت أصدق أي حديث من أي شخص، كنت أصدق كلاما مسموعا بأدلة حسية مقطوع بها أو غير مقطوع. كنت أصدقهم تعلقا بالوصل أو بمعنى أكثر دقة، بحثا عن الوصل، وصرت أسمع وأصدق، وأسمع وأصدق!

إلى أن تزاحمت بداخلي الكثير والكثير من الأفكار حتى وقفت وقفة اختيارية مع نفسي أقول لها، كيف طال بك البحث هكذا بدون أي جدوى!

وشعرت أن ما أبحث عنه لم أجده بعد وكأني أسير في طريق خيوطه منسوجة بحرفية شديدة، إذ أقف على حافة كل خيط لحظات من الوقت ثم انتقل إلى حافة خيط آخر وهكذا، فنحن دائما نبحث عن العيوب حولنا ثم نجدها في النهاية بداخلنا.

شككت في نفسي أني ضللت الطريق، ولكني كنت على يقين أن هناك طريقا للهدى، ولكن أين هو؟! أو كيف أصل له؟ فأنا لا أعلم.

ولكن ما كنت أعلمه في الوقت ذاته هو ما الذي أبحث عنه وما الذي أريده بالعين، فما كنت أبحث عنه هو “الوجود”، وأي وجود هذا وأنا على يقين أنه موجودا معي! و كانت علامات استفهامي تنهي سؤالا “هل أنا موجود معه” ؟! كنت أسعى إلى أن استشعر أني موجود معه

فقط هذا كان كل ما أريده!

كل جرس من أجراس الإنذار المختلفة كان مؤشرا لعلامة ما، وكل إشارة واضحة أو مبهمة كانت ترشدني إلى الطريق بدون أن تأخذ نفسي انتباهاً بالعلامات، كان كل شيء يرشدني إلى المحبة ولا أبالغ إذا قلت المحبة التي يصاحبها السلام.

ولم يكن أمامي إلا أن أرمي كل ما بداخلي من معارك، حتى أبحث عنه، حتى أبحث عن الله وفتشت في نفسي حتى وجدته، وجدته بداخلها، وجدته بداية كل شيء ونهايتها، وجدته عندما كنت أحدثه في كل الأوقات وأنا أعلم يقينا أنه يعلم ما بداخلي هل يراني ولا أراه؟

وأنا كل مرة أحاول محاولات مليئة بالجهد النفسي أن أراه بأي طريقة من الطرق الممكنة، أحاول أن أراه في سكوني وحديثي ومتاهتي وحيرتي، نعم أراه ! إني أرى الله في نظرتي إلى الأشياء، وفي محبتي للأشخاص، في علني أراه وفي سري أشعر بأني لا أصل معه بالمحبة للمنتهى،

قرأت وسمعت أحاديث كثيرة عن كيفية تطهر قلبك، وكنت أسعى إلى ذلك مرات عديدة بمحبة ولا أنكر أمام نفسي أن مرات أخرى كانت بعناء ولحظات مشقة مع النفس لا يمكن أن أنساها، ثم فكرت كيف أطهر قلبي؟! حتى أخذني اجتهادي الذي لا يخلو بعضه من عبث سببه قلة علمي وتقصيري “بأنه لكي تطهر قلبك فأنت تحتاج أن تسكن العالم ولا تجعل العالم يسكن داخلك، العالم بتفاصيله المرهقة أحيانا والممتعة أحيانا أخرى”.

لكي أطهره علي أن أقتني ما أحب أن اقتنيه من هذا العالم، وأترك البقية حتى وإن كانت هذه البقية جزءا من حقي، علي أن أزهد في كل شيء لا صلة له بالمحبة التي أبحث عنها.

فعلتها وتركت كل شيء حبا وزهدا، ولم اتركه إجبارا من نفسي على نفسي، وسكنت في مساكن قلبي وتفضل بجلاله يسكن بداخلها وكنت أنا في حضرته في كل نبضة أطير فرحا ثم تعقبها نبضة جديدة أطير فيها حبا وسلاما… وأيقنت وقتها أني أنست بوجوده كل الأنس، فلا شك أن من يختار المحبة سيبتهج في حضرة المحبوب.

وتركت حديث كل من هم خلفي من الذين كان في قلوبهم مرض ينظرون إلي نظرة المغشي عليه من الموت، وهم يقولون: “كيف تتركين عمرك زهدا؟” وهم لا يعلمون أني هكذا قد امتلكت عمرا على عمري، وامتلكت صدقا أحيا في قلبي كل نبضة من الأمل.

يقولون: كيف أذهب وحدي ومن ثم اختار الوحدة كظلم لنفسي وهم لا يعلمون أن  في وحدتي أنسي، لم أكن لأجهد نفسي في ثرثرات كثيرة فهم لن يقتنعوا بأنهم لا يبحثون عن المحبة “فمن يبحث عن المحبة يجد قلبه متجردا من الدنيا بما فيها ومن فيها”

وسرت في الطريق حتى أخذتني كل مشقات الحياة وتصالحت معها، وكان معي حجابا يحفظني، يحفظني من مشقات كثيرة!

وواصلت دعواتي له بأن يهديني ويغربل كل من حولي ويأذن لي بدوام الوصل، وأذن لي بالوصل حتى جعل مرادي من مراده جل وعلا ، وكنت  يوما قد قرأت أن “من جعل مراده مرادك فهكذا قد أرادك”، و وضعت روحي على شرفات البداية وأنا لا أنتظر لها نهاية”، وتعلمت أن المحب لا يبالي بنهاية مع المحبوب لأنه تعلق أبدي داخل قلبه.

وأيقنت وقتها أني وفقت إلى كل ما كنت أبحث عنه، فما كنت أبحث عنه كان سهلا ممتنع المراد، ولكن المريد إذا أراد فلا مانع يقف أمامه ولا أمورا دنيوية تحول بينه وبين من أراده، واستكملت الباقي من حياتي أقصد كل حياتي وأنا أريده واخترت أن أكون معه وحده.

حيث ركنا بعيدا أجد فيه أماناً يرضيني، أماناً من الناس، و أماناً من العالم، وقبل كل هذا أماناً من نفسي، وأصبحت من وقتها “في مأمن من نفسي”

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها