أسماء شحاته تكتب عن رابعة: مفتاح السيارة أنقذ حياتي

كنا والموت في سباق نحو خط وهمي للنهاية وكلا منا يستبق للوصول، يسقط الراكض على يسارك ويمينك وبقيت وحدك تسابقه نحو اللاشيء.. يتبع.
الأمان الزائف الذي تبحث عنه في كل اتجاه فلا تجد.يتبع

 سيارة أسماء ومفتاحها ورصاصة الموت

السادسة والنصف صباحا، الرابع عشر من أغسطس/آب من العام 2013، ميدان رابعة العدوية.

بين سكون الضحى وصخب كاسيت السيارة، حيث كنت أجلس انا وصديقتي، في ذلك الصباح، ننتظر أن تظهر شمس اليوم لنعود لبيوتنا، كما تعودنا أن نفعل ونعود من جديد عصرا لنكمل مع الموجودين اعتصاما بدأ منذ 40 يوما أو يزيد.

بين السكون والصخب في تلك اللحظة ، لم نميز إلا كلمة واحدة أتبعها دخان خانق مسيل للدموع .. “الهجووم بدأ”

وشباب يجري من حولنا وهو يقرع على أعمدة النور المحيطة بالمكان لتنبيه الجميع أن اليوم الذي كان صباحه عاديا، لم يعد كذلك ما بقي من الحياة.

قنابل الغاز تتطاير وأراها في مرآة سيارتي التي أسرعت بها داخل خط التأمين لإعتصام رابعة، لأتركها وديعة عند الله وأركض مسرعه وصديقتي باتجاه مسجد رابعة، حيث طلب منا الشباب في المكان أن نتوجه.

نركض والرصاص يركض خلفنا يحصد من استطاع أن يطاله، ويصيب من كان نصيبه لقاءه.

كنا والموت في سباق نحو خط وهمي للنهاية وكلا منا يستبق للوصول ،يسقط الراكض على يسارك ويمينك وبقيت وحدك تسابقه نحو اللاشيء.

الأمان الزائف الذي تبحث عنه في كل اتجاه فلا تجده، فكل شبر هنا على ناصيته كان يقف قناص الموت ينتظر اللحظة المناسبة، لتسقط الفريسة.

والقناص لا فرق عنده بين من كان أمامه، سواء أكان شابا أو عجوز، طفلا أو فتاة، الكل هنا تحت مرمى النيران، الكل هنا هدف لمزاج الباشا الذي يحصد من دون توقف أرواحا صعدت إلى بارئها تشكو ظلم العباد لرب العباد.

مسرعتين كنا نركض وفي ظهرنا حُمل شاب فاضت روحه إلى بارئها، كان أول الشهداء في الميدان، ذاك ظني، فالضرب حين بدأ كانت بدايته في ذلك الشارع الصغير خلف طيبة مول حيث كن .

إصابة غريبة، بانت من تحتها ضلوع صدره وحجم الجرح كبير على رصاصة عادية!
هكذا وقفت أمام جثمانه مذهولة، الغاز المسيل للدموع إذاً لم يكن إلا بداية روتينية واليوم يوم فصل، لن يعود أي شيء كما كان بعد الساعة.

انطلقت إلى المستشفى الميداني لأوثق الإصابات وهالني ما رأيت، اكتشفت أن أول شهيد وإصابته التي استغربتها كانت أخف وطأة مما رأيت بعد ذلك.

الأدمغة متفجرة فارغة من الداخل، والاستهداف دائما كان الصدر والرأس، وأينما حلت الرصاصة حل معها الموت الذي ظل طوال اليوم يحلق بجناحيه على الميدان.

أزيز الطائرات يقترب من المستشفى والكل هنا يحذر من الوقوف جوار النوافذ، أنت مستهدف أيا كان موقعك، حتى المستشفى الميداني الممتلئ عن آخره بالمصابين والشهداء كان الاستهداف لها غريبا، أطلقوا علينا الغاز المسيل للدموع بكثافة فكنا والمصابين نختنق.

ولما أمسكت عدستي لألتقط صورة جرح غائر في رقبة أحدهم أودى بحياته، سمعت صوت الرصاص فوق رأسي، وعنفني المسؤول في المكان قائلا لي عودي مكانك أنتِ هدف بما تحملين بين يديكِ.

التصقت بالحائط لا أكاد أرى أين أضع قدمي فالأرض دم وجثامين وموت.

طلبوا منا الخروج بعد أن أنهينا توثيق الشهداء في تلك الغرفة لإكمال عملنا في مكان آخر، لم أحتمل أكثر وخرجت أكتم ذهولي وصدمتي فيما رأيت أبحث عن مكان أستنشق فيه هواءا لا يحمل رائحة الغاز الخانق أو الدم القاني فما وجدت، لايوجد شبر هنا إلا وقد ترك اللون الأحمر بصمته عليه.

حتى مصلى السيدات حيث تركت صديقتي حين دخلته لأطمئن عليها، وجدت في منتصفه تماما دائرة يتحلق حولها الجمع الموجود يبكي فإذا بهم مجموعه من جثامين الشهداء لم يجدوا مكانا لهم إلا هنا فقد امتلأت القاعات والدرج بالجثامين بشكل مخيف غير مسبوق ولايزال النهار في أوله!

” استودعتك الله الذي لا تضيع عنده الودائع يا أسماء ”

حين التقط هاتفي الشبكة وكان حدثا فريدا من نوعه، كان صوت أمي فقط هو ما أتمنى أن أسمع، وحين رن الهاتف بنغمته المميزة التي كانت مخصصة لها سارعت بالرد عليها أحاول أن أقف في مكان لا تكثر فيه الضجة حتى لا يأكلها القلق فما وجدت، فمن حولك صغار يبكون ونساء لا يتوقف لسانهن عن الدعاء ومصابون رغم جلدهم، تأوهاتهم تخترق سمعك وقلبك وأنت لا تملك شيئا تفعله لأجلهم إلا الدعاء، وصوت الرصاص لا يتوقف ، أنت محاصر بالضجة، أحاول أن أستجمع قواي لأرد عليها: أمي أنا بخير، فقالت لي “استودعتك الله الذي لا تضيع عنده الودائع يا أسماء ” وتوقف الهاتف بعدها تماما عن النطق، وكأني به يقول لي يكفيكِ أنكِ وديعة أمك عند الله وفقط.

وخرجت بعدها أكثر اطمئنانا أبحث عن شئ أفعله فما وجدت إلا عجوزا قد جلس على أحد الأرصفة يكسّر أحجارها لينقلها الشباب حيث خط البداية وكان هذا ما نملك لندافع به عن أنفسنا أمام سيل الرصاص المتعدد الأشكال والأنواع المنهمر علينا من كل حدب وصوب.

أخذت أجمع الأحجار التي يكسرها في أي شئ يقع تحت يدي والشباب ينقلوه إلى الأمام، فلما فرغت أحجار الرصيف بحثنا عن آخر، حتى تذكرت التحرير وأيامه، كذا كنا نفعل وقتها حماية للميدان وللثورة، حجارة مقابل رصاص.

وبدأت أخبار الأصدقاء ترد إلينا: استشهدت حبيبة، ارتقت أسماء البلتاجي..!

كيف؟ كنت قد التقيتها منذ قليل نجمع الأحجار سوية ، متى حدث ، كيف جرؤ من قنصها على أن يفعل ، ألم ينظر إلى براءة وجهها الغض ، ألم يلمح طفولة ملامحها الجميلة ، كيف واتته الجرأة على أن يفعل بملاك صغير كأسماء ما فعل ..!

يمر جثمانها إلى جوارنا  فنركض كالمجانين خلفه، نصل إلى مركز رابعة الطبي حيث لفظت أنفاسها الأخيرة وقد تآمر عليها الجيش والشرطة فمنعوا الإسعاف من الوصول للمكان وقد كان من الممكن إنقاذها لولا نقص الإمكانات الطبية وخطورة وضعها الذي احتاج نقلها سريعا خارج الميدان للعلاج.

إلا أن سهم القدر قد نفذ، ورحنا نودعها قبل أن ينقلها اخوتها من المكان فكانت نهاية اليوم هنا ، حين وقفت مدرعة على باب المركز الطبي وقد فتحت النيران علينا وحوصرنا بين بابي المركز ، فواحد وقفت أمامه مدرعة تحصد من استطاعت ، وباب وقف على مقربة منه قناص مجنون يغتال كل حركة هناك ، لنسقط أرضا والرصاص والخرطوش يتطاير من حولنا بشكل مفزع ، سقط إلى جواري شابين فاضت أرواحهم إلى بارئها ، وأصبت في جانبي الأيسر بالخرطوش الذي ظل في جسدي إلى اليوم ، وتسللت رصاصة إلى ظهري أوقفها عنه مفتاح سيارتي وشواحن الكاميرا والمحمول وعدسة الكاميرا في حقيبة ظهري التي افتدتني من رصاصة مميتة .

دخلوا علينا بعد أن حصدوا ما حصدوا وأصابوا من أصابوا ملثمين بالأسود يرفعون بنادقهم في وجوهنا جميعا وكأسرى حرب خرجنا من مركز رابعة الطبي في صفين طويلين أحدهما كان رجالا والآخر كان نساء وأطفالا كانوا جميعا يحتمون بذلك المبنى من رصاص الغدر الذي انطلق 12 ساعة كاملة ويزيد دون توقف .

خرجنا من المكان تحت تهديد السلاح وقائد المجموعه واقف بجوار المدرعة يلوك علكة ساخرا ، لم تهتز له شعره او يرف له رمش ونحن نخرج ، من استطاع منا حمل مصاب حمل ، ومن استطاع حمل شهيد حمل ،والدخان الأسود قد ملأ المكان واحترقت أرض رابعة من حولنا فما بقي منها إلا رماد.

سرنا نحو الشوارع الجانبية للمكان تحت زخات الرصاص الذي لم يتوقف وقد لحقت بنا صديقة كانت تبكي بانهيار ولا نميز من حديثها إلا جملة واحدة ” حرقوا المستشفى الميداني، حرقوا المسجد، حرقوا جثامين الشهداء ” وكانت من أواخر من خرجوا من المكان وشاهدت بعينيها الحريق الذي أكل في طريقه كل شئ.

لنرى بعد ذلك في مسجد الإيمان الجثامين المتفحمة ومنهم من كان حيا حين أشعلوا النيران فيه وفي كل شئ ..!

مجزرة فض اعتصام رابعة، يوم سيظل محفورا في الذاكرة مهما اهترأت أو غابت تفاصيل عن الحكايا، حاول أن تتحدث عن ذلك اليوم، أو تكتب ما عشته، وانشر ما شئت من صور، سيبقى اليوم وساعاته وأحداثه ومشاعره وصدمته واستيعابه مهما فعلت أو حاولت أوتحدثت، حبيسا داخل صدرك وعقلك.

 أسماء أنور شحاتة

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها