أزمنة الكلمات

ظننت أنّه بلا سببٍ بيّن حتّى فكّرت أنّه ربّما لأنّي غادرت ركنيَ الشديد الدّافئ نحو حيطانٍ باردة درّبني حبّ التعلّم على تقبّلها. لكن شجرة كلماتي لم تكن لتتأقلم مع ذاك المناخ الغريب.

تلك الحاجة التي ألحّت على الإنسان الأوّل أن يخطّ على الصخور خطوطا وأشكالا تعبّر عن خوالجه وهواجسه وأفكاره وشعوره بالخوف والفرح والقلق والدهشة وتملأ صدري!

تأتي إلى بالي مواعيدي الأولى مع الكتابة، أتذكّر الورقات والقلم الذين أخطفهم على عجل ثمّ أختلي بهم بعيدا عن الأعين فتنضح حروفي بما فاضت به روحي، تتشكّل الكلمات أمامي وأنا جالسة، أشرد هنيهة ثمّ تلتحم الأفكار وتتكوّن الجمل وأرى النصّ نصب بصيرتي يمرّ مكتملا فأجري لمدادي كي أصطاده وأسكنه الورقة. أهبّ لأكتبه، تنتفض يدايَ كأنّ سيل الكلمات يدفعها. أسمع اسمي، ثمّة مِن أهلي مَن يُناديني، لكنّي لا أستطيع الإجابة فأنا منهمكة لا أملك أن أنصرف عن المعاني في مخاضها فهي تنتظر اِحتوائي وإلّا تلاشت، ضاعت.. أنتهي من مهمّتي وأنفاسي تكادُ تنقطع كأنّي كنت في سباق. أطوي الورقة، أخفيها. لا تعودُ تعنيني. إلى موعد آخر، حينَ تتفتّح الشبابيك في رأسي وتفدُ الكلماتُ طيورا تقفُ على رأسي لا تتركني حتّى أُووِيها ورقي.. تلك كانت المواعيد الأولى؛ كانت أوقاتًا مستقطعة من الزّمن. كنت أخرج من الزّمن إلى فناء من نور، ثمّ أعود إليه متخفّفة لحِملٍ جديد.

بعد هذه الجلسات التي كانت تأخذني على غير موعد، تغيّر الأمر. لم تعد ورقاتي طائشة، أصبحت أسكِنُ الكلمات بيتا خاصّا: خصّصت لهم كرّاسا لونُه أخضر ويشدّ أوراقه لَوْلب. أصبحت أنتقي من بستان اللغة أجود الكلِم كي أغزل صُوارًا أطربتني. وبعد أن يصير النّص بساطا مزركشا، أسيرُ نحو أمّي فأطرحُه أمامها ليكون التماع عيناها شفاءً لغرور طفوليّ وتربيته على كلماتي كي تواصل تصويرها وتلوينها العالم ما حولها.

ثمّ كانت جلسات مستقطعة تُعقَدُ إثر موقف له تأثير فيما حولي. لم تعد الجلسات لنظم ما يعتمِلُ داخلا، ما يُقلقُ، ما يُنهِكُ.. أصبحت جلسات لا انقطاع للأنفاس فيها، لا تنزّه بين عابق الألفاظ فيها.. كانت كتابة هادئة تنقّبُ عن رأي حكيم، عن رصانة.. وتريد أن تخبر أنّها جزء من هذا الذي يحدث حولها.

ثمّ كان الانقطاع. ظننت أنّه بلا سببٍ بيّن. حتّى فكّرت أنّه ربّما كان لأنّي غادرت ركنيَ الشديد الدّافئ نحو حيطانٍ باردة درّبني حبّ التعلّم على تقبّلها. لكن، شجرة كلماتي لم تكن لتتأقلمَ مع ذاك المناخ الغريب. تلك الصّغيرة التي ظلّت بداخلي لم تقدر أن تبسِط يدها لشجر الكلم الذي أعتقد أنّه بقي راسخا في أعماقها، فقد ظلّ يكبر ويكبُر مذْ ذلك الحين! حين دقّت الساعة الصّفر ليسقط عرش الظلام. دقّت الساعة نحو زمنٍ جديد. كلّ الأمور اقتُلعت من جذورها وطارت إلى آفاق جديدة. الكلمات حلّقت في أفقٍ بعيد واسع. لم تعد الكلماتُ تسكن الورقات الطائشة ولا الكرّاس الأخضر. لم تعد الكلمات تتلكّؤ وتأخذ وقتا مستقطعا. أصبحت الكلمات أنفاسا، قهوة الصباح التي توازن النّهار، أغنيات القلب وتراتيله.. لا حياة تُطاق بلا كلمات؛ لا معانٍ، لا رسائل، لا كينونة، لا هويّة، لا وطن.. بلا كلمات!

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها