أحمد عبد الرحمن يكتب: غربــةُ وطـــنٍ.. وألــمُ فِــراقٍ

عامان وعشْرةُ أشهرٍ قضيتُها بعيدًا عن وطني وأهلي، اللهمَّ إلا لقاءً عابرًا بيني وبين أمِّي، وإقاماتٍ متقطعةٍ مع زوجتي وابْنتَـيْنا، وفَراقَ والدي الغالي. يتبع

عامان وعشْرةُ أشهرٍ قضيتُها جَبْرًا بعيدًا عن وطني وأهلي، اللهمَّ إلا لقاءً عابرًا بيني وبين أمِّي، وإقاماتٍ متقطعةٍ مع زوجتي وابْنتَـيْنا، وفَراقَ والدي الغالي دون معرفةٍ بمرضه ودون توديعهِ، فقد ترك أثرًا بالغًا في نفسي؛ زاد من كُرهي وبغضي لتلك الغربةِ اللعينة.

تلك الغربةُ التي أُجْبِرنا عليها؛ بسبب انتماءٍ سياسي، وخوفٍ من بطشِ العسكر برافضِيه، أو نتيجةَ قطعِ أرزاقِ بعضِ الناس، أو اتخاذِ موقفٍ محترمٍ من نظامٍ انقلابي، أو لقلةِ رزقٍ في وطننا؛ دفع كثيرين إلى البحثِ عن فرصةٍ أفضلَ في وطنٍ آخرَ، ربما تطولُ تلك الغربة أو تقصرُ إلى أنْ نجدَ الوطنَ الذي طالما حلمنا به، ولقد سعينا إلى تحقيق هذا الحلم “وطن الكرامة” في 25 يناير، عبر أهدافها وشعارها “عيش، حرية، عدالة اجتماعية”.

الغـُرْبــــةُ – كما عرَّفها العلماءُ – هي البعدُ عن الوطن، وهى تشيرُ غالبًا إلى المشاعر السلبية المرافقةِ للانقطاع عن الأهلِ والأجواءِ المعتادة، وعادةً يتغربُ الإنسانُ من أجل الدراسةِ أو كسبِ العيش، أو من أجل تحقيق ربح مادي أفضلَ، وطموحٍ إلى مستوًى معيشيٍ مرموقٍ، وربما يغتربُ بشكل قسري جبري؛ في حالات الحروب وانعدام الاستقرار الأمني والسياسي، كحال أهل فلسطين وسوريا والعراق وليبيا واليمن وأخيرًا مصر، ويسمى الإجبار على الغربة قسرًا بالتهجير.

كلمةُ الغربةِ لا تطلقُ فقط على من سافر وهاجر بعيدًا عن وطنه، بل هناك غرباءُ كُثـْــرٌ داخلَ وطنِهم، يشعرون بالغربة؛ بسبب سوء المعاملة والتقدير، أو لشدة الحاجة وقلة الحيلة، وغلاءٍ فاحشٍ كالذي لحق بالمصريين من جراء نظام عسكري فاشل، إذْ لم ينجحْ العسكرُ على مر العصور في صناعةِ نهضةٍ أو تحقيق نجاحٍ، لذا فكل ذلك تعدي بمعنى الغربة من المصري المسافر والمهاجر بعيدا عن وطنه إلى المواطنَ المصري الذى يعيش داخل بلده.

ورغم مرارة الغربة وصعوبتها على النفس، فإنك تجد أناسًا تحسُدُك دائماً على شيءٍ هو لا يستحقّ الحسدَ؛ حتّى إنهم على الغربة يحسدونك، كأنّما أصبحَ التشرّدُ والبعدُ عن الأهل والأحباب بل وفراقهم دون رؤيتهم وتوديعهم مكسبًا، وعليك أنت أن تدفعَ ضريبتـَـه نقداً وحِقْـداً.

وأقولُ لهؤلاءِ “إن الغربةَ فاجعةٌ يُدْركُها المغتربُ على مراحلِ، ولا يُستكملُ الوعيُ بها إلا بمرور الوقت، فصدقًـا إن الغربةُ هي أقسى شعورٍ يمكنُ أن يمرَّ بهِ الإنسانُ، بعيدًا عن أهله ومعارفه وأصحابه، بعيداً عن أرضِه ووطنِه

وأقولُ لهؤلاءِ “إن الغربةَ فاجعةٌ يُدْركُها المغتربُ على مراحلِ، ولا يُستكملُ الوعيُ بها إلا بمرور الوقت، فصدقًـا إن الغربةُ هي أقسى شعورٍ يمكنُ أن يمرَّ بهِ الإنسانُ، بعيدًا عن أهله ومعارفه وأصحابه، بعيداً عن أرضِه ووطنِه، لكنَّ الظروفٌ القاسية هي التي تجبرُ الشخصَ على فعلِ ما لا يُريد”.

ويعلمُ اللهُ كما أن هذه الغربةَ تُعد كُربةً شديدةً نمر بها ونتمنى زوالها، إلا أنَّ الإنسان يتعلم فيها المُحَالَ، ويقدرُ قيمةَ ترابِ وطنِه، حتى وإنْ لم يقدِّرْهُ هذا الوطنُ فلم يقدمَ له شيئًا سوى القتل والتشريد والسجون والمعتقلات والفقر والجوع في وقتٍ يقدمُ فيه الغنى الفاحشَ لعساكره وجنوده المخلصين ورجالِ أعماله الفاسدين وإعلامييه المزيِّـفِـين لوعي الشعب.

لقد علمتني الغربةُ أشياءَ كثيرةً على المستوى الشخصي والعملي والاجتماعي، ففي الغربةِ تتعرف على أشخاصٍ تحسبهم على خير، ولكن مع مرور الوقت فإنك تجد شعارَ “مصلحتي أولًا” متغلبًا على كل المشاعر الانسانية، إلا من رحم ربي – وهم قليل – فليس الكلُ سيئًا، وهنا لستُ أصدِّرُ الصورةَ السوداء، بل إن هناك رجالًا وأشخاصًا، أصبحوا مقرَّبينَ إلىَّ – كأخي الذي ولدته أمي – وتشعرُ معهم بتعويضِ جزءٍ، ولو بسيطٍ مما فقدتَّه بغربَتِكَ وبُعْدِكَ عن أهلك وأصحابك، فصدقَ رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – حين قال “لا تُصَاحِبْ إِلا مُؤْمِناً، ولا يأكُلْ طَعَامَكَ إِلا تَقِيٌّ”.

ونعود إلى حديثنا عن تلك الغربةِ اللعينة، التي قام شعراءُ بوصْفِ مشاعرهم إزاءهًـا، فيقولُ الشاعرُ المبرّد”:

جِسْــــمِي مَعِي غَيْـرَ أَنَّ الــرُّوحَ عِنْدَكُمُ .. فَالْجِسْــمُ فِي غُرْبَـةٍ وَالرُّوحُ فِي وَطَــنِ

فَلْيَعْجَــبِ النَّـــــاسُ مِنِّـي أَنَّ لِــي بَدَنًـا .. لا رُوحَ فِيـــهِ وَلِـــي رُوحٌ بِــــــلا بَـــــدَنِ

وفي نهاية تدوينتي هذه، أؤكدُ أنَّ كثيرين ممن سافروا خارجَ أوطانهم بإرادتهم، أو حتى وهمْ مجبرون عليها، يعلمون كمْ هي مؤلمةٌ تلك الغربةُ؛ فهي عُمْـــرٌ يمرُ دون حسابٍ، وفيها أحْبابٌ نفارقُـُهم دون وداعٍ.

صحفي مصري

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها