أحمد خطاب يكتب: دبلوماسية الإلهاء

كانت صدمة اليونانيين في القرن الخامس قبل الميلادي رغم انتصارهم على الفرس والفينيقيين الذين أرادوا غزو بلادهم. يتبع

   أحمد خطاب / مدون مصري

تعتبر الدبلوماسية المصرية أعرق الدبلوماسيات تاريخا في المنطقة؛ لذا يكون مستغربا أن تمارس أمرا يتنافى مع أبسط الأعراف الدبلوماسية؛ أو حتى التقاليد الحياتية, عندما خرج ممثل الدبلوماسية المصرية ووزير خارجيتها (سامح شكري) الذي جمعته قبلها بدقائق طاولة واحدة للتفاوض مع ممثلين لدولة تتلاعب بالأمن القومي المصري.

 وتهدد نيلها الذي هو شريان حياة مصر, ليلقى بميكروفون قناة الجزيرة الفضائية, بدا الأمر للبعض وكأنه ردة فعل سريعة دون مبالاة الرجل بوضعه الدبلوماسي كرمز لدولة, إلا أن الحقيقة أن (شكري) قد مارس بهذا الفعل المستهجن استراتيجية للدولة المصرية تتسم بها تصرفاتها السياسية في الفترة الأخيرة.

 
من بديهيات ومسلمات العمل الدبلوماسي قبول الأعداء والمغايرين بوجه طلق باسم, والسعي لأسهل الطرق لحل أي نزاع أو خلاف بعيدا عن استخدام الأيدي والألفاظ غير المناسبة, وتذهب بعض مدارسها لاستخدام الرمزية في اختيار الملابس والإكسسوارات كما كانت تفعل (مادلين أولبرايت) في التباين في اختيارات أشكال المجوهرات التي كانت تضعها على ملابسها لتتناسب مع الرسالة التي تريد إرسالها مع كل لقاء.

لقد كانت صدمة اليونانيين في القرن الخامس قبل الميلادي رغم انتصارهم على الفرس والفينيقيين الذين أرادوا غزو بلادهم وخروجهم منهكين من هذه الحروب؛ سببا في ظهور المذهب السفسطائي في اليونان التي ظهرت فيها نشأة الفكرة الديمقراطية ومارسها الشعب, فظهر المذهب السفسطائي ليكون شاغلا للناس عما ألم بالدولة اليونانية من إنهاك

لم يعد الخيال إزاء تلك البشاعات التي تتدفق من دون توقف على وعينا ومحيطنا يشكل درعاً حصينة تحمي الذات إذ صارت أثار هذه الاستراتيجية مدمرة للوعي الجمعي واللحمة المجتمعية

واكتشافهم بطلان نظرية صمود الموانع الطبوغرافية لبلادهم بمفردها في صد أي عدوان, وهي الفكرة التي كانت مصدرا للشعور بالأمان في اليونان قديما, ودائما ما تلجأ الأنظمة الاستبدادية ونخبها التي لا تقبل مجرد النقد أو المراجعة عند الفشل في تحقيق ما وعدت به للتغرير بالجماهير من خلال استراتيجية الإلهاء بقضايا فرعية لا طائل من ورائها؛ للحيلولة دون التفات الجماهير الصاخبة للفشل الحادث على الأرض.

 

تحدث الأمريكي نعوم تشومسكي في كتابه (أسلحة صامتة لحروب هادئة) عن فكرة إلهاء المجتمعات فقال ” عنصر أساسي لتحقيق الرقابة على المجتمع، عبر تحويل انتباه الرأي العام عن القضايا الهامة والتغيرات التي تقررها النخب السياسية والاقتصادية، مع إغراق النّاس بوابل متواصل من وسائل الترفيه, في مقابل شحّ المعلومات وندرتها, وهي استراتيجية ضرورية أيضا لمنع العامة من الوصول إلى المعرفة الأساسية، حافظوا على اهتمام الرأي العام بعيدا عن المشاكل الاجتماعية الحقيقية، اجعلوه مفتونا بمسائل لا أهمية حقيقية لها, أبقوا الجمهور مشغولا، مشغولا، مشغولا، لا وقت لديه للتفكير، وعليه العودة إلى المزرعة مع غيره من الحيوانات ” استراتيجية تشتيت اهتمامات الشعب وإلهائه بقضايا فرعية ليست بغريبة على الحالة المصرية.

فقد اعتمدت هذه الاستراتيجية كأسلوب أداء, وظهرت جلية مع كم الإخفاقات في الوعود التي لم ير على أرض الواقع منها شيئا, ويستطيع المتابع البسيط للحالة المصرية تتبع مفردات هذه الاستراتيجية, ويغرق البعض في التأويل ليذهب غير واحد إلى توقيتات حدوث بعض العمليات الإرهابية ذات الإمكانات الأعلى من قدرات المجموعات المتهمة بالتنفيذ كونها أحد مفردات هذه الاستراتيجية.

كان لهذه الاستراتيجية أثرها البالغ على المشهد المصري بل و المجتمع بأسره, حيث قسمت الشعب إلى مساير بلا عقل أو شاجب مستنكر, فكانت عاملا رئيسيا في التفتت والتشظي الحادث في مصر, بعد اعتماد النظام المصري لها كأسلوب حياة، فأفرزت هذه الاستراتيجية أبشع ما في المجتمع من مظاهر اجتماعية سلبية.

كان لهذه الاستراتيجية أثرها البالغ على المشهد المصري بل و المجتمع بأسره, حيث قسمت الشعب إلى مساير بلا عقل أو شاجب مستنكر

ولم يعد الخيال إزاء تلك البشاعات التي تتدفق من دون توقف على وعينا ومحيطنا يشكل درعاً حصينة تحمي الذات إذ صارت أثار هذه الاستراتيجية مدمرة للوعي الجمعي و اللحمة المجتمعية.

 لم يكن الإعلام المصري بعيدا عن ممارسة هذه الاستراتيجية في تعاطيه مع مشكلة سد النهضة, وتغطيته لما دار بين المؤتمرين في الخرطوم وعن الـ (لا شيء) الذي صدر عن جلستهم الختامية, التي شهدت فشلا ذريعا للدبلوماسية المصرية في التعامل مع مشكلة تمثل تهديدا مباشرا لأمننا القومي ومستقبل أجيالنا, فضاع بين التأييد والشجب والإنكار التطرق لذاك الفشل؛ فوجه الإعلام المؤيدين لإسباغ لقب (أسد الدبلوماسية المصرية) المنتصر بإلقاء ميكروفون فضائية الجزيرة, أو تنديد المستنكرين لممارسة سوقية من رأس الدبلوماسية المصرية, منشغلين عن الإخفاق والفشل في مشكلة السد.

 جاءت تصريحات وزير الخارجية الأثيوبي(تيدروس أدهانوم) حول سد النهضة الذي قال فيه:  إن تصريحات مصر فيما يتعلق بسد النهضة لا تعدو تصريحات إعلامية وفقط، والقيادة السياسية تعلم جيداً أنها وافقت على كل شيء، ومصر أضعف من أن تشن علينا الحرب .” لم تكن هذه التصريحات التي مست الكرامة المصرية وفضحت تواطؤ النظام ذات بال لدى الإعلام المصري, الذي لم يتوقف عندها كثيرا, وراح يمارس نفس الاستراتيجية لإبعادها عن الذاكرة الجمعية للشعب المصري .

من مفردات هذه الاستراتيجية استبدال الأعداء وتفريغ القضايا الجوهرية, وكانت هذه الحرب أحد مفردات استراتيجية الإلهاء

فمصر منشغلة بحرب فضائية قرر النظام دخولها مع من يمارسون مهنية الإعلام وتوفير المعلومات, وكان من مفردات هذه الاستراتيجية استبدال الأعداء وتفريغ القضايا الجوهرية, وكانت هذه الحرب أحد مفردات استراتيجية الإلهاء لتحقق هدفين, أحدهما الإلهاء

 والثاني التحكم في مصدر المعلومات الملقاة والتشكيك المبدئي في أي معلومة تساق من وسيلة مهنية لا تخدم مصالح النظام . لم تكن الفعلة الدبلوماسية التي مارسها رأس الدبلوماسية المصرية محض صدفة, بل دبلوماسية الإلهاء من خلال جولة من جولات معركة بقاء لنظام أخفق على كل الأصعدة وارتضى أن يجعل معركته فضائية, يخوضها مع أحد المنابر الإعلامية.

أحمد خطاب 

مدون مصري  

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها