أبو بكر مشالي يكتب:حتي لا تكون عربة لحصان أحد.

يتوهم بعضنا خطئاً أن مواقع التواصل الاجتماعي تُمثِل طريقاً يَبساً للثقافة لا يخاف سالكه دركاً ولا يخشي, لكن الأمر علي غير ذلك تماماً>

أبو بكر مشالي

يتوهم بعضنا خطئاً أن مواقع التواصل الاجتماعي تُمثِل طريقاً يَبساً للثقافة لا يخاف سالكه دركاً ولا يخشي, لكن الأمر علي غير ذلك تماماً, لأننا نعيش اليوم واقع ديناميكي مُتسارع تتدفق فيه المعلومات بغزارة شديده علي هذه المواقع , مما يجعلنا مُطالبين باليقظة و الانتباه لما يُمكن أخذه و ما يجب رفضه كي لا نكون صيداً سهلاً لسياسات التأطير و محاولات كيّ الوعي و الارهاب الفكري و اللجان الالكترونية التي تُوَظِف كُل طاقاتها و امكاناتها لإعادة تشكيل هويتنا و احتلال عقولنا, خاصة أننا في ظِل التقنيات المُتاحة حالياً نستطيع التعبير عن آرائنا بضغطة زر واحدة “بوست و تويت” و إعادة تداول الرأي و المعلومة آلاف المرات بضغطة زر أخري “شير”

 كل ذلك بالمجان وليس هناك إطار أو حد يمكن أن تقف عنده المعلومة ليتم اختبارها والتحقق من صحتها و إلي أي مدي يُمكن الاعتماد عليها, حتي أصبحت قدرتنا علي صناعة الزيف و الاحتفاء به أكبر من قدرتنا علي رفضه و فضحه و التحقيق معه , لأنكم كما تعلمون أن النشر ليس حِكراً علي أحد بعينه , كُلنا يُمكنه أن يكتب و ينشر و يتداول الآراء و المعلومات دون قيود وكُلنا يُمكنه أن يكون رمزاً في يوم و ليلة , طالما توفر الجمهور الذي يسهُل تدجينه و تعبئته و حشده.

في تحليله للثورة الفرنسية و ارتداداتها علي المجتمع الفرنسي رأي “غوستاف لو بون”  مؤسس علم نفسية الجماهير ومؤلف كتاب “سيكولوجية الجماهير” منذ أكثر من قرن أن من أهم الخصائص النفسية للجماهير هي انخراط الفرد وسط المجموع مُتخلياً عن عقله الواعي و منطقه و حقه في التفكير كي ينسجم معهم فقال “ان الجماهير لا تعرف الا العواطف البسيطة والمتطرفة فان الآراء و الافكار و العقائد التي يحرضونها عليها تقبل من قبلها أو ترفض دفعة واحدة , فإما ان تعتبرها كحقائق مطلقة او كأخطاء مطلقة” لذلك من السهل جداً أن يكون الجمهور جلاداً و بنفس ذات السهولة يمكنه أن يُصبح ضحية و هُنا تكمن خطورة العقل الجمعي الذي يتشكل تدريجياً و بشكل لا إرادي علي مواقع التواصل الاجتماعي من الأفراد و علي الفضائيات والإعلام الموجه من السُلطة كي يثيرون عاطفتك باتجاه ما يريدون و يحتلون عقلك فتستسلم لروايتهم للأحداث.

هذا الفِعل رُبما هو ما يُفسر التحول الذهني للأشخاص بعد أن كانوا يدعمون ثورات الربيع العربي في بدايتها إلي أشد الُمناهضين لها الآن فكما يري “لو بون” أن “لا شيء مدروس لدى الجماهير، فهي تستطيع أن تعيش كل أنواع العواطف، وتنتقل من النقيض إلى النقيض بسرعة البرق  وذلك تحت تأثير المحرضات السائدة” فلا يستطيع أن يتحكم في ردة فعله والأخطر من ذلك أن الفرد ضمن الجمهور تتشكل لديه قناعة مع الوقت أنه غير جدير بالتفكير أو النقد لأنه أصبح يتعامل مع كل ما يُمليه عليه صاحب القطيع علي أنها مُسَلَّمات لا يملك أمامها سوي أن يخضع و يُذعِن و هذا الشعور الذليل هو ما دفع الشاعر عبدالعزيز جويدة يوماً لأن يقول:

خمسون عاماً أنحني ,, مُذ كُنت يوماً سيدي طِفلاً رضيعا

والآن تأمرني لأرفع هامتي ,, عُذراً فإني سيدي لا أستطيع

قبل أن أتجاوز هذه النُقطة , أدعوكم لقراءة كتاب “سيكولوجية الجماهير” الذي قال مُقَدِمُه أنه الكتاب الذي من خلاله استطاع هتلر و موسوليني أن يسيطرا على شعوبهما وأنا أُشاركه هذا الرأي بقوة , فالكتاب أصبح مَرجِعاً أكاديمياً في الجامعة و استفاد منه قادة العالم قبل العامة بعد أن تم رفض صاحبه كأستاذ طيلة حياته علي الرغم من كل محاولاته لكن الأفكار تبقي و الرموز تموت.

إذاً ثمة مرض عُضال اسمه “الجماهير ,الحشود ,القطيع” والحصانة الوحيدة ضد كل ذلك هي أن تكون قادراً علي الرؤية من خارج إطار القطيع و بعيداً عن سُلطة العقل الجمعي للحشود , كي تُحقق ذلك يجب أن تكون مُثقفاً واعياُ تعتمد في ثقافتك علي مصدر موثوق حيادي قدر المُستطاع ولا أظن أن هناك شيئاً يُمكنه أن يصلح لهذا سوي “الكتاب” أعني “القراءة المُتأنية الراسخة” وَدَدتُ لو وضعت مئة خطٍ تحت “الراسخة” لأن الرسوخ أصل الدقة و القوة ,  كي تكون راسخاً يلزمك أن تُحسن اختيار ما تقرأ , ألا تستقي علمك و قناعتك من كل ما هو “ناشط و خبير و مُتخصص و سوشيال ميديا ستار و أخواتهم من مُرتادي الفضائيات” لأن هذه المصادر -التيك اواي- لا تصنع قارئاً ولا مُثقفاً أبداً , يلزمك أن تُتابع التساؤل و البحث و الدهشة , أن تقتات علي المعرفة و الجُهد و التعب و السهر, أن تكون مُنتبهاً للفكرة دائماً مهما كان صاحبها, أنا هُنا لا أتحدث عن تَرَف ولا أظن أنني مُبالغاً حين أقول ذلك , لأن بدون ذلك لن تكون سوي فرداً في قطيع يؤدي دوراً بائساً علي خشبة المسرح ببلاهة و يقينية ساذجة , لذلك كُن أنت الشخص الذي إذا اجتمع الناس حول كذبة صرخ في وجوههم و اعترض و شق بصوته هذا الرضوخ الأبله , فلا شيء أكثر عبئاً علي الفكرة – أي فكرة – من أن يكون حاملها جاهل بها , مغبون فيها , ولا شيء أنفع للفكرة من أن يكون حُراً, أن تكون حُراً يعني أن تتخلص من كُل قيد قد يُسيطر حتي لو كان هذا القيد شخصاً رمزاً قيادياً لأن الانتماء يكون للأفكار لا للأشخاص , أن تكون حُراً يعني أن تختار من الأفكار ما يوافق عقلك بأريحية و يُبقيك عُرضة للشك والتغيير دائماً ، أن تكون حُراً يعني ألا تتوقف عن البحث و التساؤل , أن يكون احتمال الصواب و الحق عندك مُشرَعاً و مفتوحاً لكُل ما قد يصل إليك من جديد ، أن تكون حُراً يعني ألا تقبل بفكرة مالم تكن واثقاً في أصالتها و راضياً بمبادئها و مُقتنعاً بعدالة القضية التي تقوم عليها , أن تكون حُراً يعني ألا تسمح لأي أحد حتي ولو علي رأسه عمامة أو فوق كتفه نيشان أو مدجج بالسلاح أو ضيفاً دائماً علي الفضائيات أن يُفكر بالنيابة عنك أو يختار لك فهذا حقك الذي كفله الله لك, وليس هناك مواءمات أو استثناءات فيما يتعلق بقضية الحرية , هناك خياران فقط إما أن تكون حُراً أو لا تكون.

نستطيع الآن أن نفتح قوساً و نقول “يجب علي الجيل الذي يعيش هذه المرحلة من التاريخ و يُعايش كل هذه التحولات التي جاءت بها الثورات أن يصنع ثقافته الشخصية و يكَوِن قناعاته بنفسه ليتعامل من منظور تقييمي نقدي لأي فكرة تطرأ أمامه فهو المسؤول الأول عن بنية عقله و صحة معتقده الذي يجعله صامداً أمام فوضي الأفكار المسمومة و محاولات التأطير و القولبة و الإرهاب الفكري التي يتم بثه لخدمة أشخاص و كيانات بعينها , ولأن الأشخاص عادة ما تحكمهم النزعات الفردية و الخلفيات المُسبقة و رُبما الزهو بالذات أحياناً فلا يُمكننا أن نُرهن رؤوسنا لشخص ما أو نسمح لأحد أن يسلبنا حقنا في التفكير بأي مُبرر لأن المعركة الآن علي الوعي , فأنا أتفق مع جون ستيوارت ميل في أن “الأمة الفكرة/التيار/الحزب/الجماعة/الحركة التي تُقَزم رجالها لكي يُصبحوا أدوات طيّعة أكثر في يديها حتي ولو من أجل أهداف مفيدة , سوف تجد أنه لا يمكن إنجاز شيء عظيم برجال صغار” فإذا كانت النفوس كِباراً , تَعِبت في مُرادها الأجسام.

دُمتم أحرار

مدون ومهندس مصري

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها