أبو بكر مشالي يكتب: كل الطرق تؤدي إلي المرشد

ليس ذنب حسن البنا أن أنصاره لم يحسنوا فهم طبيعة الدعوة ولا عِظم الفكرة التي انتسبوا اليها، فهو الذي حذَّرهم يوماً ما قائلاً “إن دعوتكم ما زالت مجهولة لكثير من الناس”. يتبع

ليس برسول ولم يدّع يوماً النبوة , حتي من تأثروا به لم يخرجوه عن إطار البشر , لم يزعم يوماً ما ألوهية رأيه أو عصمة فكرته عن الخطأ , قالوا عنه مُجدِداً و أسمَوه إماماً , لكنه كان أكبر من أن تدرك خصاله الألقاب أو تشغله كثرة المسميات , مضي في طريقه الواضحة المعالم , أعلن عن فكرته الغريبة عن مجتمعه بكل شجاعة , أخرج شباب وطنه من دور الملاهي إلي حلقات المساجد فكان كلما حل أثمر , عبقرية في البناء , إخلاصا في العمل , صدقا في التوجه , أصالة في الفهم , حكمة في التصرف , جرأة في الحق , زهدا فيما عند الناس.

كانت عاطفته تفيض علي كل من حوله , لذلك تمني خصومه لو كل الخصوم مثله , كان رجلاً بأمة , حمل علي كاهله هم الدعوة إلي الله بإخلاص علي عكس رغبة الحكام , لذلك كان لابد أن يموت مبكراً , قتله الطغاة قاتلهم الله ,, ولا أدري ما الذي كان سيفعله ذلك الرجل “حسن البنا”  لو عاش خمسين عاماً أخري ؟ عليه رحمة الله

تعرفت إلى حسن البنا “مؤسس جماعة الاخوان المسلمين” من الحلقات التي كانت تُعقد بانتظام بعد صلاة الجمعة في المسجد الذي نشأت فيه , لكن شخصاً كالبنا يثير فضولك لمعرفة ما يحيط بشخصيته, لذلك تعرفت عليه عن قرب عبر رسائله و عاطفته و مصارحته , طالعت ما قاله و ما قيل عنه بعيداً عن الإطار التنظيمي و طقوسه الروتينية , وكم كان هذا الرجل ينتمي للسماء لا لشيء آخر , وكم أنا مدين له بعد الله بفهم شمولية الدين و ضرورة التضحية لأجله فهو الذي قال يوماً ” دعوة بلا تضحية لا يُرجي من ورائها ثمره”.

وليس ذنب حسن البنا أن أنصاره لم يحسنوا فهم طبيعة الدعوة ولا عِظم الفكرة التي انتسبوا اليها , فهو الذي حذَّرهم يوماً ما قائلاً “إن دعوتكم ما زالت مجهولة عند كثير من الناس” , ولم يكن يدري أنها ستكون مجهولة عند كثير من أنصاره اليوم , فكيف بمَن يجهل حقيقة ما هو منتسب إليه أن يدعو غيره لاقتفاء أثره و تَبني فكرته عن اقتناع ؟!

حين كتب البنا رسالة “دعوتنا” ليقدم نفسه للناس و يعرض فكرته عليهم , توقع أن يكون الناس أمام دعوته صنوفاً أربعة , إما مؤمن أو متردد أو نفعي أو متحامل ,, يفوتك أن تعرف يا إمام أن ضمن جماعتك اليوم مَن هو نفعي أكثر ممن هو خارجها , ولا أنسي حين قلت لأفراد جماعتك “إننا مغمورون جاهاً فقراء مالاً , شأننا التضحية بما معنا و بذل ما بأيدينا” نعم كانت الجماعة أقوي حين كان التنافس في البذل لا في الأخذ , وكان الإخلاص غاية لا الصيت و الشهرة.

قلت يا إمام أن ” أعز ما يملك الاخوان المسلمون هو ذلك الجندي المجهول , الذي إذا حضر لم يُعرَف , وإذا غاب لم يُفتَقد , يتعَمَد البعد عن الشهرة والأضواء , قليل الكلام كثير العمل ” وأصبح في الجماعة اليوم من يريد أن يصل صوته لا أن تصل رسالته , مَن يُعَرِّفنا بنفسه لا مَن يُعَرِّفنا بدعوته , من هو أحرص علي شرف المقدمة حتي و إن لم يكن أهلاً لها , مَن هو طامح للخلود علي أنه قائد التغيير و الثورة و إن كان عبئاً عليها.

نعلم يا إمام أن كل قضية حولها ثلاثة أشخاص , شخص يعيش لها و شخص يعيش عليها و آخر يعتاش منها , والجماعة اليوم مكتظة بهؤلاء الثلاثة وكم للهوي من أقنعة.

حين خشيت علي جماعتك صرحت لهم بمخاوفك قائلاً “أخشي عليكم أمرين ,, أن تنسوا ربكم فيكلكم إلى أنفسكم ، وأن تنسوا أخوتكم فيصير بأسكم بينكم شديد” وقد كانت مخاوفك حقيقة , فلم يعد عقد الأخوة كما كان عليه يا إمام , كان حديثك ما بين مصارحة و عاطفة , وأصبحنا نفتقر إلي هذين المعنيين اليوم , صار الحديث غامضاً عن السياسة في السياسة لأجل السياسة.

 صحيح أن الإعانة علي حوائج الدنيا مستمرة وكفالة أسر الشهداء والمعتقلين قائمة , لكنني أزعم أن ثمة فتورا في العلاقة بين أفراد الجماعة, فضلاً عن الظلم الاجتماعي الذي يعيشه الصف , و هذا الظلم نابع من متلازمة ليست جديدة علي مجتمع الاخوان وهي ” الأخ ابن المسؤول” , أعني أن ثمة اهتمام يحظى به الأخ إن كان والده مسؤولاً أو قيادياً , لا يحصل عليه الأخ العادي ابن الأخ العادي , حتي في الاعتقال ثمة تباين في الاهتمام و الرعاية.

أزعم أن توازن الصف و تماسك الجماعة حتي الآن إنما هو ثمرة صدق و إخلاص بعض الاخوان المجهولين الذي لا صيت لهم , ولا يمكنني أن أصدق أو أقنع بغير ذلك , يسعكم أن تقنعوا بما تشاؤون لكنني لا أجد تفسيراً لذلك سوي بركة هؤلاء المجهولين. والله أعلم

رحل الإمام حسن البنا في صمت دونما حشود أو مُشَيِّعين , و ترك خلفه صَرحاً لطالما تغني بحُسنه أبناء جماعته قائلين ” إن للإخوان صرح كل ما فيه حسن ,, لا تسلني من بناه إنه البنا حسن ” هذا الصرح الذي بُني نقياً شامخاً كبيراً بحاجه لمن يستكمل بناءه و يُرمم ما تَلَف منه , و يعالج بيته الداخلي ليستقيم أكثر من حاجته لتجميل صورته في عيون الآخرين.

لا يفوتني أن أؤكد علي أنني كنت و ما زلت و سأبقي أعترف بفضل هذه الفكرة الربانية و أثرها في تكويني و بنية عقلي و وجداني , فأنا ثرّي بهذه التجربة الحيّه و سأبقي علي عهد الفكرة ما حيّيت , لكنني مع هذه القناعة أؤمن أن الفكرة كالجسد مالم يتجدد الدم في عروقه أصيب بالتجلط و توقف عن العمل ,, أسأل الله أن يجدد دماء الجماعة و يطهرها من معاول الهدم , من كل منتفع و صاحب هوي و طالب شهرة , وأن يوثق رابطتها و يحييها بمعرفته.

أبو بكر مشالي
مهندس ومدون مصري

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها