«البيع» أساس الحكم!!

 

 

قالوا من لا يقرأ التاريخ ويأخذ من أحداثه العظة والعبرة سيتجاوزه الزمن ويسحقه الحاضر وينفيه المستقبل خارج الحسابات ليقبع في المؤخرة، ويصبح دومًا في خانة المفعول به الذي لا حول له ولا قوة، في ظل عالم لا يعترف إلا بمنطق القوة المتنوعة الوجوه سياسية واقتصادية وعسكرية وهو مثلث التوازن اللازم للاستمرارية والاستقلالية في عصرنا الحالي، ويبدو أن الجماعة العسكرية في مصر تتغافل عمدًا القياس على تجارب الآخرين ومن سبقوا ومصير الانقلابات العسكرية وتطبق فقط منهجية إجبار الشعب المصري على الصمت والخضوع دون نقاش أو مقاومة، طواعيةً أو بالإكراه في كافة مناحي الحياة داخل الدولة المصرية، في العادة تأتي الأنظمة وتعمل جاهدة لتستمر وتستقر بطريقة أو بأخرى، لكن النظام الانقلابي يبدو وكأنه جاء لينفذ خطة ممنهجة محددة ومرسومة بدقة هدفها تكتيف الدولة سياسيًا وإغراقها اقتصاديًا وتمزيقها مجتمعيًا وتقزيمها جغرافيًا وجعلها رهينة لإرادة الخارج -ممولي الانقلاب ومن يحركهم- وبأقصى سرعة ممكنة ففي عالم السياسة والمصالح والعلاقات الدولية لا شيء مجانيا.

عدة مؤشرات مختلفة خلال السنوات الخمس الماضية تكشف عن مدى التخبط المتعمد للنظام الانقلابي وسيره بالدولة برمتها نحو الهاوية، أهمها والذي مر ويمر كسابقيه في ما يخص الوضع الاقتصادي مرور الكرام هو الارتفاع المستمر للدين العام للدولة المصرية بطريقة غير مسبوقة ليتخطى حاجز ال3 تريليونات و800 مليار جنية مصري داخليًا وهو ما يمثل نحو 108% من الناتج المحلي الإجمالي، وأكثر من 92 مليار دولار خارجيًا، عضدت تلك الأرقام تصريحات محمد معيط وزير مالية السيسي نفسه حيث أكد في أغسطس الماضي تضاعف الدين العام لمصر 5مرات خلال 5سنوات، وسير نظام الانقلاب جديًا في طريق التنفيذ الحرفي لخارطة صندوق النقد الدولي الرامية لرفع الدعم نهائيًا عن معظم السلع الأساسية والطاقة وغيرها وطرح عدد من الشركات المملوكة للدولة للبيع وتقليص عدد الموظفين في الجهاز الإداري للدولة والكثير من الإجراءات المماثلة والتي لن يدفع فاتورتها إلا الطبقة المتوسطة الآخذة في التآكل والفقيرة المستمرة في الازدياد من الشعب المصري دون غيرها، وكأن العسكر لا يتحصلون على العلامة الكاملة إلا في الاستدانة والتقهقر على كافة المستويات حتى العسكري منها وحرب السيسي الشعواء على أهل سيناء خاصًة والمصريين عامًة منذ الانقلاب وحتى يومنا هذا دون نتيجة واضحة والاختباء خلف الشعار المطاط والمفضل للنظام وهو محاربة الإرهاب خير دليل وبرهان، وإن كانت كل الدلائل تشير لنية السيسي إخلاء شمال سيناء من سكانها ويربط الكثيرون بين هذا وبين صفقة القرن الرامية لتصفية القضية الفلسطينية إرضاء للجار الصهيوني صاحب السلام الدافئ مع حليفه السيسي، يترادف هذا مع قبضة أمنية ثقيلة تبطش بكل المخالفين للنظام دون استثناء بغض النظر عن الخط الفكري والتوجه السياسي وتغييبهم في السجون والمعتقلات وقسريًا وتنتهج القتل خارج إطار القانون وبطرق شتى مع خضوع تام للسلطة القضائية لنزوات وإملاءات النظام العسكري ومن أفلت من كل هذا فلا خيار أمامه إلا الخروج من مصر لمن وجد واستطاع إليه سبيلا.

السيسي ونظامه ومنذ استيلائه على السلطة بقوة السلاح إثر انقلاب 3يوليو 2013 الدموي يتعامل مع مصر ومقدراتها وجغرافيتها بمنطق السلعة والسبوبة القابلة للبيع والشراء في المزاد لمن يدفع أكثر بغض النظر عن هدفه وجنسيته ومآربه فالمهم هو أن يستمر تدفق الأموال لجيوب النخبة العسكرية ومن يدور في فلكها ولتذهب باقي طوائف الشعب المصري إلى الجحيم ولا يتم تذكرها أو دعوتها إلا في الأزمات والمشاكل المتسبب بها النظام الإنقلابي، فالشعب هو من يتحمل المسؤولية عن كل ما حدث وما سيحدث إما بحجة عدم الوعي بحجم المؤامرات التي لا يراها إلا النظام أو الإدراك لصعوبة الوضع أو التقاعس عن العمل أو الإسراف في النفقات كما يروج إعلام عباس كامل فعلى الأقل نحن أفضل من سوريا والعراق كما تردد أذرعه الإعلامية دون كلل أو ملل، وكأن الشعب هو من استدان عشرات المليارات -غير تلك التي منحها له رعاته في الرياض وأبوظبي- من كل حدب وصوب وتم ابتلاع معظمها وتوزيعها لقادة العسكر والمحاسيب والهيئات المساندة للنظام وإنفاق الباقي في صفقات خارجية متعددة هدفها الوحيد ترسيخ وشرعنة النظام واستمراريته، ومشروعات داخلية غير ذات جدوى اقتصادية أو فقط لرفع الروح المعنوية للشعب كما صرح فلتة زمانه وسابق عصره الجنرال السيسي بنفسه عندما تم سؤاله عن الجدوى والمردود الاقتصادي لتفريعة قناة السويس الجديدة والتي ابتلعت في عام واحد أكثر من 64 مليار جنيه مصري ذهبت أدراج الرياح بل إن إيرادات القناة الرئيسية نفسها في انخفاض مستمر ببركة الجنرال ومنظومته -على سبيل المثال لا الحصر-.

تعددت طوابير الوقوف والانتظار للمصريين وإن اختلفت طبيعتها وأهدافها فمن طوابير الناخبين أمام صناديق الاقتراع بعد ثورة 25 يناير 2011 لاختيار من يحكم مصر ويمثل الشعب تمثيلًا حقيقيًا دون وصاية من أحد، لتتحول الوجهة للعكس تمامًا بعد انقلاب يوليو 2013 العسكري لتصبح طوابير معاناة وإذلال وعقاب للشعب المصري على جرأته ومحاولته الحصول على حريته وامتلاك قراره، لعل أحدثها ولن يكون آخرها طوابير المواطنين للحصول على عدة كيلو غرامات من البطاطس والتي يتم بيعها في أقسام الشرطة ومنافذ القوات المسلحة إثر ارتفاع أسعارها بشكل غير مسبوق أو مبرر وعملًا بالمثل الشعبي “من دقنه وافتله” -كنايًة لمن يساعدك أو يبيعك شيئًا أنت في الأصل تمتلكه-، قام النظام بمصادرة كميات ضخمة من البطاطس -وجبة طعام الفقراء- محفوظة في ثلاجات بغرض التصدير أو تقاوي لدى بعض التجار وطرحها للبيع في منافذ للشرطة والجيش في ضربة ثلاثية استفاد منها النظام ماديًا عبر بيعها بطريقته وعبر منافذه واختبار رد الفعل لدى المواطنين ومدى قبولهم للوقوف طوابير ولمدد طويلة للحصول على السلعة مهما كانت بسيطة -سيتم تكرار السيناريو مع سلع مختلفة- وقبولهم لشرائها بغض النظر عن قانونية مصدرها وطريقة الحصول عليها ثم دخول المؤسسة العسكرية والمرتبطين بها على الخط وسد حاجة السوق منها ليستمر توسع وتشعب المنظومة العسكرية في مصر لتطال كل شيء وأي شيء.

وإمعانًا في الاستهتار بعقول الشعب المصري والإمعان في قهره وقمعه بتنا نسمع عن تهم جديدة تجمع بين الأسى والسخرية على شاكلة تقزيم قيادة وإدارة الدولة ولا أدري ما هي بنود تلك التهم، احتمال لأن فيها تلميح لشخص الجنرال الحاكم أم لأنها تنكأ جراحًا يظن النظام أن الشعب نسيها فمن قزم الدولة بتنازله عن جزيرتي تيران وصنافير للسعودية وتنازل عن المياه الإقتصادية لمصر في البحر المتوسط وما تحتويه من احتياطيات ضخمة من الغاز والنفط ومن فرط في حصة مصر التاريخية من ماء النيل ومن نسف مدنا وقرى بأكملها وفرغها من سكانها ودمر مزارعها في شمال سيناء ومن يقيد حرية شعب بأكمله إنه الجنرال السيسي ومنظومته ولا أحد غيره.

وصلت الأمور في مصر حرفيًا لمنعطف خطير بات يهدد سيادة الدولة واستقلاليتها حاليًا ومستقبلًا، مع الكم غير المسبوق من الثروات المنهوبة والصفقات والاتفاقيات التي يبرمها النظام في شتى المجالات الاقتصادية والسياسية والعسكرية والتي تكبل الدولة وتضخم فاتورة الديون ولا يستفيد منها الشعب المصري على أرض الواقع وملزم بسدادها مستقبلًا فالاتفاقيات والقروض والديون تلتزم بها الدولة حتى لو تغير نظام الحكم فيها، أضف لهذا عدم تقدير أصول الدولة وممتلكاتها وقطاعها العام التقدير المالي الصحيح تمهيدًا للتخلص منها وبيعها بالتدريج وفاءًا للديون المتراكمة أو للكفيل السعودي والكفيل الإماراتي مباشرةً أو عبر شركات ترتبط به مع غياب أي نية حقيقية للنظام العسكري للقيام بأي إصلاح اقتصادي، على العكس كل المؤشرات والتقارير الدولية المحايدة والموضوعية تؤكد التقهقر الواضح للاقتصاد المصري وارتفاع مؤشرات الفساد في مصر بصورة مستمرة وغير مسبوقة.

المشهد الختامي الذي يختصر الصورة القاتمة في مصر هو حضور المخلوع مبارك ورموز نظامه كشهود في محاكمات هزلية وقضايا ملفقة ومصطنعة كثورة 30 يونيو المزعومة والمتهم فيها الرئيس محمد مرسي ونظامه المنتخب في مشهد درامي من النوع القاسي والمؤلم حين تحاكم الثورة المضادة والدولة العميقة ثورة الشعب المصري في 25يناير وإرادته وحريته التي بذل فيها الغالي والنفيس ليصطدم بضباع العالم وأعداء الحرية وقد تآمروا عليها لإجهاضها وإعادة الشعب الثائر لحظيرة السكون والصمت والقبول بالظلم القهر والاستبداد، قد تبدو الصورة مأساوية لكن فصول الثورة لم تنته بعد وإرادة الشعب سيأتي يوم وتنتصر طال الزمن أو قصر

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها