وليد شوشة يكتب: النباهة والاستحمار

الشيء الذى يُنجي الإنسان والأمة من شؤم الاستنزاف الفكري هو النباهة الإنسانية . فإعلام المستعمر والمستبد ، واستعمار الإعلام ، يسخران عقل الإنسان لأقوالهما كما يُسخر الحمار.. يتبع

وليد شوشة

ميز الله الإنسان بالعقل ، واستخلفه في الأرض ليقيم فيها الحق والعدل ، واختصه بالفهم والوعي دون سواه من المخلوقات، وكان الدليل العقلي على وجود الله ، سابقا للدليل النقلي ؛ فحين سُئل أعرابي : كيف عرفت الله ؟ قال : ” إن الأثر يدل على المسير، والبعرة تدل على البعير، فسماء ذات أبراج ، وأرض ذات فجاج ، وبحار ذات أمواج ألا تدل على السميع البصير” . ويتميز الإنسان باستعمال عقله وليس بحيازته فقط ، فكما أن صلاح الماء في جريانه ، فكذلك العقل في استخدامه ، حتى يصير الانسان نَـبِـهاً ( والنباهة- الفطنة والشرف ) فلا يدع لأحد المجال كي يلعب برأسه فيعطله ، ومن ثم يتبع كل ناعق شبراً بشبر وذراعاً بذراع ، واستخدام العقل يحول بين صاحبه وبين الوقوع في غياهب الأمعية (الاتباع في الصواب والخطأ ) وكانت مهمة الاستعمار والاستشراق حين هيمنا على المشرق العربي ، أن يعملا على تعطيل العقل ، وإعادة تشكيله حسب رؤيتهم  ومخططاتهم للبقاء ، واستخدموا لذلك جيشا جرارا من الإعلاميين ، والأدباء الذين رحلوا إلى بلادهم وانبهروا بحضاراتهم ، ومن السياسيين ، والعسكريين الذين تكلموا بلسانهم.

إن عملية تعطيل العقل ، بمنعه عن التفكير والتدبر والرؤية الشاملة في كل ما يسمع ويقرأ ويُنقل إليه ، هذا التعطيل عده الإسلام غباءاً وذنباً ، وجعل عقوبته الهلاك في الآخرة “وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقًا لأصْحَابِ السَّعِيرِ “(11)الملك ” فكان ذنبهم الذى أوردهم مورد أصحاب السعير هو تعطيل عملية  السمع الواعي ابتداءً، بمعنى عدم الانتباه واليقظة لما يُقال ، والذى هو مقدمة للفهم والنباهة ، ثم كانت النتيجة تعطيل العقل ، وغياب الوعي ، فلم يتركوا لعقولهم فرصة التدبر والفهم ، فحادوا عن الصواب ، فاستحقوا السحق والعقاب.

وتحت هذا العنوان قسم الدكتور على شريعتي النباهة إلى نباهتين ” نباهة نفسية أو فردية ” و” نباهة اجتماعية” أي،  وعى الفرد ، ووعى المجتمع ، ورأى أن عدو الانسان ، وعدو المجتمع هو الذى يسلب منه الوعى الأول ، والوعى الثاني ، ولا يعوضه عنهما إلا جهلاً وفقراً وذلاً . ومن ثم تتمكن منه القابلية  للاستعمار التي شرحها المفكر مالك بن نبي . حتى يصبح هو المدافع بقوة عن أباطيلهم ، ويردد كالببغاء كلامهم ، دون روية أوفهم .

ثم يقول شريعتي “وهكذا نرى أن أدمغة العالم الثالث تنقسم إلى قسمين : قسم منها يُصدر إلى الخارج ، ليُستهلك في تلك الأجهزة العظيمة ، باذلاً نبوغه وقابليته في خدمة الأجنبي ، غير عابئ بما قد يخسر. وقسم يعود إلى البلاد ، ليشكل الوجه الثاني للأجنبي ، وهكذا تُصبح مهمة الأديب ، والمحقق ، والفيلسوف استنزاف الأفكار وتحجيرها ، وتغيير الأذهان وتحريفها .

والشيء الذى يُنجي الانسان والأمة من شؤم الاستنزاف الفكري هو النباهة الإنسانية . فإعلام المستعمر والمستبد ، واستعمار الإعلام  ، يسخران عقل الانسان لأقوالهما كما يُسخر الحمار ، ولهذا أطلق الدكتور شريعتي على المرحلة عنوان ” الاستحمار” ويرى ” بأن دافع الاستحمار قد بلغ في زماننا  درجة من القوة والشيوع لم يسبق لها نظير في التاريخ ”  والشواهد كثيرة : ففي العهد الناصري اختلقت الإذاعة المصرية أخباراً وهمية عن حرب 67، وأعلن المذيع أحمد سعيد في مساء 5 يونيو 1967 “أسقطنا 50 طائرة من طائرات العدو الإسرائيلي، وبعدها بنصف ساعة قال: أسقطنا 80 طائرة من طائرات العدو، وبعدها 100 طائرة ” وادعى الإعلام المصري أن ” القوات المصرية توغلت داخل إسرائيل، و دخلت تل أبيب” في الوقت الذى نقلت إذاعات العالم ” أن إسرائيل تسحق القوات المصرية وتضرب الطائرات على الأرض، وتتوغل داخل سيناء” . ثم عادت الحملة بقوة خلال حكم الرئيس مرسي في صورة نشر أكاذيب عن “جهاد النكاح” في اعتصام رابعة العدوية ، ووجود قنابل نووية وصواريخ في الاعتصام، فضلا عن ادعاء بيع مرسي قناة السويس لقطر، وأن حماس قتلت الجنود المصريين في سيناء، وغزة هي سبب أزمة الوقود والكهرباء في مصر.

 وبعد الانقلاب العسكري ، بدأت حملة تغييب الوعي . منها الضجة الاعلامية لاختراع الجيش لجهاز يعالج الإيدز وفيروس c بالكفتة ، وادعاء المذيع أحمد موسى” بأنه توجد كرة أرضية تحت منصة رابعة العدوية ” وقد بث المذيع نفسه فيديو لألعاب الأطفال على أساس أنها ضربات للجيش الروسي بسوريا . وادعاء المذيع محمد الغيطي  “السيسي هجم على الأسطول الأمريكي السادس وأسر قائده وهدد بضرب أمريكا” وقال :” إن الإخوان المسلمين هم سبب سقوط الأندلس”  ولقد صدق نفر عظيم من الناس  كل ما قيل ، ودافعوا عنه دفاعاً مستميتاً، دون أن يُكلفوا أنفسهم عناء البحث والفهم. والمشكلة ليست فيمن يُستأجر ليقول ما يُملى عليه ، وإنما فيمن يستمع إليه ، ويتبنى وينقل كل ما يسمعه معتقداً بصحته ، وقد قيل ليس كل ما يُسمع ويقال ويُردد، وأن لسان الأحمق أمام عقله ، ولسان العاقل وراء عقله .

ويرى الدكتور شريعتي أن الاستحمار في الماضي كان وقفاً على نبوغ المستحمرين وتجاربهم ، أما اليوم فهو مؤزر بالعلم وبالإذاعة والتلفزيون ، وبالتربية والتعليم ، وجميع وسائل الإعلام ، وبالمعارض ، وعلم النفس الحديث ، وعلم الاجتماع ، حتى صار فناً دقيقاً مُجهزاً بالعلم . والمستعمرون قد لا يدعون المستحمرين دائماً إلى ما يريدون منهم ، حتى لا يثيروا انتباههم ؛ فيفرون منهم إلى المكان الذى ينبغي أن يصيروا إليه . بل يختارون دعوتهم حسب حاجتهم ، فيدعونهم أحياناً إلى ما يعتقدونه أمراً طيباً ، من أجل القضاء على حق كبير؛ حق إنسان أو مجتمع ، وقد يدعونهم لإشغالهم في حق آخر، فيقضون هم على حق مُحق آخر.

ويقول ” للاستحمار شكلان: مباشر وغير مباشر. فالمباشر: تحريك الأذهان إلى الجهل والغفلة ، أو سوقها إلى الضلال والانحراف . أما غير المباشر : فهو إلهاء الأذهان بالحقوق الجزئية ، البسيطة اللافورية ، لينشغلوا عن المطالبة أو التفكير بالحقوق الأساسية والحياتية الكبيرة والفورية .

وإنه لمن سوء الحظ ، ألا ندرك ما يراد بنا ، فنُصرف عما ينبغي أن نفكر فيه كأفراد ومجتمعات فيصيب غيرنا الهدف ، ونحن لا نشعر”.

 وينبغي العمل على إعادة الوعى ، والقضاء على ظاهرة الاستحمار ، وتغييب العقل، بنشر العلم ، ودحض الحجة بالحجة ، وشيوع ثقافة الحوار، وحوار الثقافة ، لمواجهة حملات التغريب والضياع وغسيل العقل .

يقول الكواكبي :” على الآخذين بيد الأمم أن “يسعوا في رفع الضغط عن العقول لينطلق سبيلها في النمو فتمزق غيوم الأوهام التي تمطر المخاوف . وأن يكون الإرشاد متناسباً مع الغفلة خفة وقوة : كالساهي ينبهه الصوت الخفيف ، والنائم يحتاج إلى صوت أكبر، والغافل يلزمه صياح وزجر”.

وليد شوشة ـ مدون مصري 

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها