ولاد “الليسي” طفولة مع العسكر

 

 

كان صوت خطوات حذائه العسكري يخترق صوت أنفاس من حولي من الراقدين، كنت أودع آخر لحظات الهدوء بألم كبير، تنتزع مني كثدي أم ينتزع من رضيعها. أغمض عيني وأترقب أبشع لحظات يومي، أعرف تفاصيله قبل وقوعها. أنا مجرد طفل في مقتبل العمر، لكنني هنا منذ سنين، أنا “ولد الليسي” ولم أكن وحدي، وهذه حكايتنا.

استغل الحسن الثاني خروج جزء كبير من القوات الأمريكية التي شيدت القاعدة الجوية الثالثة على ضفاف نهر سبو في مدينة القنيطرة واستقرت فيها منذ فترة الحروب العالمية، فقام الملك الراحل باستعمال المرافق والتجهيزات الأمريكية ليضع مكانها سنة 1962 مؤسسة تعليمية داخلية تحت إدارة عسكرية صارمة جدا، سماها الثانوية العسكرية الملكية الأولى والمعروفة بـ”الليسي”، يقيم فيها التلاميذ خمسة أيام في الأسبوع، يدخلون الأحد ليلا ويتركونها ظهيرة يوم السبت.

التحق بهذه المؤسسة أبناء جنرالات وضباط وأبلوا بلاء حسنا بفضل عزلهم التام عن الفضاء الخارجي وتوفير مرافق تعليمية راقية. قررت بعدها القوات المسلحة فتح المجال أمام أبناء المدنيين وتخصيص عشرين في المئة من مقاعدها لهم بعد كشف طبي ومباراة كتابية في الرياضيات والعربية والفرنسية، وهذا ما يفسر وجودي في طابور طويل بعد 48 سنة من تأسيسها، كمدني ابن مدني وأنا في 12 من عمري لأشارك في المباراة الكتابية، تجاوز عدد المتنافسين ذلك اليوم 500 فرد، لكن 120 منهم فقط سيدخلون مدرسة الحسن الثاني، وكنت واحدا منهم.

كان يوم جمعة، طلب مني أحد الجنود بنبرة حادة جدا أن أتبعه في أول يوم كطفل جندي، وقفت ضمن صف من الأطفال في عمري جمعتنا الدهشة وكثير من الأسئلة، كل واحد يتوصل بمجموعة من الألبسة والأغطية البالية ووسادة، ثم يطلب منه العثور على سرير وسط مئات الأسرة والاستقرار فيه. كنت قصير القامة وضئيل الحجم، طلب مني “السارجان” فتح ذراعي وألقى بينها أشياء كثيرة وهو يعدها ويرفقها بعبارات لم أكن أسمعها في حياتي السابقة، بدأت أعي منذ اللحظات الأولى أن طفولتي ستنتهي قريبا وسريعا.

هنا أعود للمشهد الأول

يصل صوت الحذاء الجلدي الأسود إلى باب غرفتنا الضخمة حيث نتكدس كأصحاب الكهف، يفتح الباب بعنف ثم يبدأ السب الصباحي بأفظع الكلمات، تعصف بالأعراض والأمهات وكل ما يمس كرامة البشر. لم أعد ذلك الطفل الخجول اللطيف، بل وحشا صغيرا كالوحوش التي معي. ورغم عنف الجندي المكلف بإيقاظنا واستعداده الأكيد للضرب في كل اتجاه وفي أية لحظة فإنني أنظر إليه بتحد واستفزاز، لقد شحنت فينا سنوات الطفولة العسكرية قدرة عجيبة على مشاهدة الخطر بابتسامة، على اللعب بأوتار

العنف والرقص على إيقاع الخوف. تخيل وأنت في سن الطفولة، أن يوقظك جندي بزي عسكري بأشد العبارات عنفا وأن يأمرك بتنظيف نفسك وتغيير ملابسك وترتيب سريرك في أقل من 10 دقائق. صدقني، كنا نفعل ذلك خمس مرات في الأسبوع ولمدة 6 سنوات. بعد انتهاء مهمة الإيقاظ، يقف الجندي عادة أمام الباب ليستقبل التلاميذ الخارجين بحزامه، ويضرب كل من يمر أمامه، لا تسألونني عن السبب، فكرت كثيرا ولم أجد إجابة لهذا السؤال، الغريب في القصة أن هذا الجندي كان يحمل رسميا وإداريا صفة “مربٍ”.

لم يكن كل الجنود بهذه القسوة، ولم يكن جميعهم مكلفين بالمهمة نفسها، بل منهم من كان الضحية. لقد تحولنا بفعل الزمن إلى عصابة خطيرة من الوحوش الصغيرة، إذا فشل أحد الجنود في السيطرة علينا نأكله أكلا، عشت وشاركت في العديد من الحركات المتمردة والانقلابات الداخلية، قد يبدأ الأمر بصفير احتجاجي أو صراخ استفزازي فيتطور سريعا إلى انقلاب بكل معنى الكلمة، تفقد فيه السلطة الحاكمة سلطتها وتأتي مكانها الفوضى. لكن انقلاباتنا لم تكن تدوم طويلا، لاتنسوا أنها مدرسة الحسن الثاني الذي لم تنجح معه الانقلابات يوما.

 لعبت الظروف القاسية دورا إيجابيا في تعليمنا كتلاميذ. كان انضباطنا أمام الأساتذة انضباطا صوفيا، لا تسمع همسا في القسم وكأنك في مسجد. كما أدى عزلنا عن المجتمع الخارجي إلى اختزال أنشطتنا بين الشقاوة والدراسة، لم يكن هناك شيء يمكنك فعله غير مشاكسة العسكر أو الدراسة، كان أمرا عاديا أن يذهب التلميذ إلى المكتبة الضخمة التي كانت تتوفر عليها المؤسسة لمطالعة كتاب أو قراءة قصة، قرأت شخصيا عشرات الكتب والقصص في تلك المكتبة، وأظنني من القلائل الذين قرأوا النسخة الكاملة لألف ليلة وليلة، وبفضلها أخذتني شهرزاد في جولات كثيرة خارج أسوار الليسي. ومع تقدم سننا تطورت قدراتنا الفكرية، كان بيننا رسامون وشعراء صغار وكنت من بين أهم المحللين السياسيين في القسم، كان من المعتاد أن ترانا في دائرة صغيرة نتحدث عن السياسة رغم صغر سننا.

لم يستطع الكثيرون تحمل هذا النظام الصارم والمعقد وانسحبوا قبل وصولنا إلى قسم البكالوريا. لقد كنا نعيش تناقضا غريبا داخل تلك الأسوار، فلقد وجدت المؤسسة لأجلنا ووفرت لنا كل شيء وحرمتنا من كل شيء، لقد أعطتنا الشيء وضده. وجدنا أنفسنا في مجتمع مصغر، فيه الصديق والعدو والسلطة والقانون والفوضى، دفعتنا الفطرة إلى تأسيس الكتل المتجانسة، نبحث عمن يأتي من مدينتنا، من يشبهنا في تصرفاتنا، من يقترب من مستوانا الدراسي. كنا في بعض الأحيان ننتظم في شكل مجموعات ونتشارك الأطعمة والمال ونوقع اتفاقيات التعاون العسكري، فإذا تعرض أحدنا لاعتداء خارجي أو دخل في عراك وجد النجدة في حلفائه. لم أكن مقاتلا بارعا لكنني كنت مشاكسا مزعجا، أدى بي ذلك إلى وقوعي أمام معضلات أمنية خطيرة.

كراهية بلا سبب

جاء مرة جندي لتزويدنا برخص الخروج، كان هذا السارجان الشاب يكرهني من دون سبب واضح، ولم يكن لديه صراحة سبب آخر يدفعه لمحبتي، فلقد كنت ثرثارا مزعجا. سبني ذلك اليوم فأجبته بالمثل، تفاجأ قليلا ثم ركلني، وقفت قليلا ورأيت عبد المولى وأنس بالقرب مني، فركلته ركلة قوية في بطنه حتى تناثرت أوراق الرخص وهربت. كنت سريعا كالسهم فلم يمسكني، وقفت بعيدا لأرى ما الذي سيحدث، فسمعت صراخا شديدا داخل غرفتنا فعدت، رأيت الزميلين وهما يمسكان بالجندي، وحولهما جيش من الحلفاء ينتظر الانقضاض عليه. لم يحالفني الحظ نفسه يوم شاركت في حركة انقلابية ظهيرة الأربعاء المخصصة للأنشطة الرياضية. رفضنا القرار العسكري القاضي بتوجيهنا إلى نشاط آخر بزينا الرسمي. رفضنا نزع البذلة الرياضية فتفاجأنا بهجوم مرتد يقوده السارجان عصام، أخذت الكرة بين يدي وهربت بها، أحسست فجأة بلدغة عنيفة خلف أذني أفقدتني الوعي في الحال، كنت أسمع فقط صرخات من حولي “ومات مات” ثم شعرت بذراع قوي يسحبني ويحملني، علمت بعدها أنها كانت ذراع أمين البكوري، وهو للمفارقة أستاذ رياضة حاليا. أما اللدغة فكانت جراء شوكة حزام الجندي الذي قذفه بكل قوته فاخترق خلفية أذني وأسقطني أرضا.

لقد كانت الشجاعة عملة قوية في الليسي، لقد أسس هذا المجتمع الطفولي قواعد أكثر شرفا من مجتمعات الكبار، لقد كانت الوشاية أكبر الكبائر. اسألوا مراد بنيبة الذي رفض الوشاية بي يوم سأله العسكر وضربوه أمامي ومنعوه من الخروج بعد ظهر السبت ليرى أهله لأنه رفض الإدلاء باسم صاحب الصفير داخل القسم، ولا يعلم الآجودان طلحة إلى حد اليوم أن من صفر ذلك اليوم هو كاتب هذه السطور، وإذا كنت “مون آجودان” تقرأ هذا الكلام فلك مني التحية. فلقد كان طلحة وكثيرون يطبقون ما أملي عليهم كجنود، كان أغلبهم من الطيبين، كان الآجودان الحيمودي ضابط صف شريف، كان يطاردنا صباح مساء كي لا نتأخر عن دروسنا، ولا يتردد في التوسط بيننا وبين الأساتذة لتحسين نقطنا أو لحل مشاكلنا. كان من بين الجنود خيرون، وكان من بينهم مرضى ساديون. ولكن النتيجة التي لا نقاش فيها هي أن وظيفة الجندي قتالية وأمنية فقط، لا يمكن للجهاز العسكري أن يسير مجتمعا أو بلدا. إياك أعني، واسمعي يا جارة.

أطنان من الأحداث

يمر المدنيون في اتجاه شاطئ المهدية أمام الغابة التي تحجبنا عنهم، يرون فيلقا من الجنود المسلحين أمام باب حديدي وخلفه أطنان من الأحداث. من هنا مر الجنرال أوفقير لتنظيم انقلاب على الملك الراحل الحسن الثاني، من هنا مر أمقران ليسلح طائراته لضرب طائرة الملك، من هنا خرج صالح حشاد إلى جحيم تازمامارت.

 من هنا دخلت طفلا وخرجت شيئا آخر، من هنا مر أبي والشرقاوي والخمار والسالمي والقميط ومحسن، من هنا مر القبطان آعربة والكولونيل الراحل الوحيدي، من هنا مر الصنهاجي وبن مولى والبكوري والصوابني وبنيبة وآخرون، من هنا مر كذلك محمد الرماش.

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها