وفاء زيدان تكتب: عربية في جامعة باكستانية .. مختصر حكايتي

أنا طالبة عربية في بلاد المنفى لكن حالي كحال الملايين غيري من العرب المتفوقين،لا أعلم إن كنت يوما سأعود لوطني الحبيب سورية لأخدمه بعلمي أم سأظل بعيدة عنه في الغربة! يتبع

الجامعة البحرية في إسلام أباد

لطالما شدني مشهد الطلبة الباكستانيين من الأطفال وهم متجهون نحو مدارسهم صباحاً، كنت أراقبهم من نافذة السيارة وأنا في طريقي لمدرستي العربية حيث يدرس أغلب أبناء العرب في إسلام أباد.

أتفحص عن كثب الزي الذي أرتديه المكون من مريول رمادي يصل حتى القدم فوق قميص أبيض ومن ثم اختلس نظرات على الطلبة هؤلاء وهم يرتدون في الغالب، إن كنّ فتيات، الشروال الأبيض والقميص الأزرق السماوي الذي يصل حتى الركبة وشال يدعى “دوباتّا” يلتف حول نحورهن، زي مثالي لطالبة شقية مثلي تهوى الجري والقفز والإزعاج، أما إن كانوا فتية فالبنطال الرمادي والقميص الأبيض ورابطة العنق الحمراء هو زي كفيل بأن يجعل من تلك الأحجام الصغيرة منظرا صباحياً مبهجاً!

كنت بطبعي طالبة مشاكسة وطفلة حالمة، لا أصادق إلا الشقيات كي أشبع شغفي من المغامرة و”الشيطنه”,  لكن ارستقراطية المكان من حولي كانت تكبل الكثير من حلم كهذا، لذلك كنت أتمنى أن أكون واحدة من الطالبات الباكستانيات، اللواتي يذهبن مشيا على الأقدام إلى المدرسة ليقابلن أناسا بسيطة ومتحمسين، كي أدرس منهجا صعبا لعله يسد نهمي للعلم، ولأنهي دوامي الممتع كما ينهونه هم بالخروج من المدرسة لأجد بائع الذرة الباكستانية الشهيرة المدفونة بالرمل ينتظرني أنا وزميلاتي، وقريباً منه بائع البوظة يشغل موسيقاه على أمل أن يسيل قلوب الزبائن لموسيقاه وبوظته إن لم يسل لعابهم، ولازلت حتى اليوم أشعر أن قلبي يرقص فرحا لسماعها حين تقترب وتقترب من حيّنا حتى آخذ بضعا من الروبيات من أبي وأجري لشراء ما أحب!

كان أبي يعي أهمية تعلم اللغة العربية والدراسات الدينية منذ الصغر فكان قراره أن المدرسة العربية السعودية في إسلام أباد هي الحل الأمثل لهذا الغرض، وبقي حلم الانخراط في المجتمع الباكستاني يطاردني حتى التخرج وهنا حانت فرصتي.

سجلت في الجامعة العسكرية البحرية الشهيرة وكان في دفعتي طلبة الصورة النمطية للباكستانيين في ذهني، لكن الصورة هذه سريعاً ما تتبخر لتبدأ عملية الجد في الدراسة من إتقان اللغة الانجليزية إلى تعلم اللغة الأوردية الباكستانية المتداولة.

قبلت التحدي والمنافسة لأني أحببت المكان والناس, اشتريت جهاز الترجمة الفوري وتحولت كتبي إلى طلاسم ففي كل زاوية أشرح معاني الكلمات والأفكار التي كانت بالنسبة للباكستانيين بسيطة! قابلت صديقات شجعنني وأساتذة لن أنسى فضلهم علي مدى حياتي وبالكاد شعرت يوماً أن أحدا منهم يتحيز ضدي لأني عربية فقد احتووني بينهم بحب, لم أقابل إلا أستاذة واحدة كانت شرسة معي لكن شاء القدر أن تكون هي السبب في أن تكون حافزاً للتحدي في إثبات الذات أكثر، لأخيب ظنها وتوقعاتها.

في السنة الأولى كانت علاماتي متوسطة مما أحزنني فلا أتخيل أن أكون إلا بالمقدمة لكن شيئا فشيئا بدأت درجاتي تتطور حتى صرت في الفصل الرابع بمستوى الطلبة الأوائل كي أصبح الطالبة الثانية على الدفعة في الفصل الخامس متقدمة على زميلتي التي كنت أتنافس معها بحدة وشراسة.

حينها أشاد بجهدي من حولي وبدأت أسمع أناساً يمتدحون لغتي الإنجليزية.. لم أشعر بسعادة أكبر من تلك في حياتي, فأنا أتفوق فيما أحب وأغار على ما أدرس من أن يحبه طالب أكثر مني !

كانت نصيحة والدي لي في السنة الثالثة من جامعتي أن أبدأ بتعلم الفرنسية فباشرت بالمشروع, صرت أنهي دوامي المرهق في الجامعة لأذهب سريعا للمعهد الفرنسي فأنكب على كتبي وأحضر للدرس الذي سيبدأ بعد ساعة أو ساعتين, كنت لا أعرف الراحة لكني كنت أتوق كل ليلة لغدي المليء بالنشاطات، وتعلمت من يومها أن الإنجاز يكون بقدر الانشغال وليس بقدر الفراغ!

في الفصل السابع كللّت نجاحي بتفوقي على دفعتي كلها بمعدل مئة في المئة، شعرت أن سعادتي خنقت كلماتي, زففت لوالدي الخبر السعيد فوراً فلا أجمل من عيون أب عندما يكون سعيدا بتفوق ابنته أو ابنه ولا من صوت أم عندما تستمع لها وهي تكرر “مبروك مبروك يا حبيبتي!”

اليوم تخرجت من الجامعة بأربع لغات: العربية، والإنجليزية، والأوردية، والفرنسية وبقدرة على كتابة البحوث والمقالات وبثروة عظيمة من أصدقاء قريبين مني بينهم طالبات وأساتذة وبخبرة أربع سنوات في المجتمع الباكستاني الذي كنت شغوفة بالغوص في تعرجاته.

لكن مهلا.. كيف هو حالي اليوم؟؟  أنا طالبة عربية في بلاد المنفى تعلمت ولازلت أطمح للتعلم أكثر لكن حالي كحال الملايين غيري من العرب المتفوقين، بيد أنهم في المنفى، أتساءل إن كنت يوما سأعود لوطني الحبيب سورية لأخدمه بعلمي أم أنني سأظل بعيدة عنه في الغربة! ما يعزيني هو أني مسلمة وخدمة المسلمين تجعلني أشعر أن لما تعلمته قيمة، لكن سنعود يوماً للشام لنبنيها، فنحن البناة وغيرنا الهدامين، نحن البلابل التي تشدو على أغصان وأنهار وغيرنا البوم والغربان لا تعيش إلا على الخراب فطوبى لنا والويل والثبور لهم!

وفاء زيدان
صحفية سورية مقيمة بباكستان

 

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها