واقع محنط

هي عبارة عن مشهد شبه مسرحي، تراجيدي، شخصيتُه الرئيسية تحيل إلى الإله أنوبيس في وضعيته المعروفة، التي تُذَكر أيضا بوضعية كل واحد منا وهو جالس يقتل الوقت سباحةً في الشبكة الدولية.

عبد الرحيم إقبي فنان تشكيلي من طراز فريد، يشتغل مِن مدة، في مرسمه بحي ﮔيليز بمراكش، على تحنيط الواقع (واقع بلده على وجه الخصوص، والواقع العالمي على وجه العموم) بطريقة فنية كأنه يريد تجميدَه مؤقتا إلى أن يجد له صيغةً أفضلَ من صيغته الراهنة. هذا حلم وردي والفنان إنسان حالم بطبعه.

عبد الرحيم مهووس بالفن الفرعوني والأساطير المصرية القديمة، خاصة ما يتعلق منها بالموت، وبالتالي بالإله أنوبيس، إله التحنيط الذي يمتلك أسرار البقاء الأبدي، كما أنه لا يتردد في الإعلان عن انتمائه نوعَ انتماء إلى التيار الفكري الذي نشأ في يونان القديمة مع ديوجانس الكلبي، وليس غريبا أن يكون شغوفا بأغنية المطرب الفرنسي الشهير ليو فيري، من المدرسة الأناركية، وأعني أغنية « أنا كلب »، التي تبدأ – صدفة ؟ – بعبارة: «إلى الطيور التي تزقزق واقفةً» ونحن نعرف المكانة التي تحتلها الطيور في المتخيل المصري القديم، والمثال الساطع هو الطائر أبو منجل، رمز الإله توت، إله الحكمة، الذي بيده ميزان الوقت.

عُرف عبد الرحيم أكثر ما عرف بلوحة اسمها الكارثة، وهي لوحة (على غرار مجمل لوحاته المتداولة) تستعيد نوعا ما لحظةَ لوحة الفنان بيكاسو، الغرنيكا، التي خلدت في تاريخ الفن حربا من حروب الإنسان الكثيرة والمأساوية على أخيه الإنسان، إلا أن عبد الرحيم له خصوصيته وهو شديد التأثر، كما أسلفت، بالفن المصري، كما يظهر مثلا في اللوحة التي اخترت إرفاقها بالنص الحالي،  وهي لوحة قد انتهى منها (أو لعله لم ينته منها بعد) للتو وعرضها كعادته في صفحته على الشبكة الاجتماعية، حيث اعتاد عرضَ صور أعماله وهي ما تزال في بدايتها في شكل خطاطة، ليرى أصدقاؤه الافتراضيون كيف تولد اللوحة عارية، أولا، في شكل فكرة غير مبينة، ثم تتضح ملامحها بالتدريج وتنمو وتكبر ولا تشيخ، لأن قراءتها وتأويلها يبقيان دائمي الفتوة والحيوية.

عبد الرحيم عضو نشط في الشبكة الاجتماعية، لا يبخل بفنه على الذين لا يستطيعون ولوج عالم المعارض، وهو إنسان عفوي يعبر بوضوح محير عن آرائه في السياسة والاجتماع والفن والأدب (هو في الأصل حاصل على دبلوم في الأدب الفرنسي، شعبة اللسانيات)، آراء قد تصدم أحيانا من لا يعرف الرجل وصراحته وحس الفكاهة لديه. وقد أتحفنا في الأيام القليلة الماضية بصورة للوحته هذه التي أجازف بإعطائها اسم « الواقع المحنط »، وهي عبارة عن مشهد (هذه قراءتي طبعا وليست من الفنان نفسه) شبه مسرحي، تراجيدي، شخصيتُه الرئيسية تحيل على الإله أنوبيس في وضعيته المعروفة، التي تُذَكر أيضا بوضعية كل واحد منا وهو جالس أمام حاسوبه، يقتل الوقت سباحةً في الشبكة الدولية أو ثرثرةً مع أصدقاء الفضاء الأزرق الأخاذ والفتاك في آن، ونرى أيضا على يسار اللوحة بومة، ومعلوم أن البومة حاضرة عند المصريين وترمز للموت والحكمة، وشبحَ بجعة والبجعة، على الأقل عند اليونانيين، مرتبطة باللحظات الأخيرة في الحياة، كقولهم « نشيد  البجعة »، ويعنون أن ساعة الموت دقت، كما يمكن أن تُطلق العبارة على آخر ما أنجزه الفنان من عمل فني أو الأديب من عمل أدبي، الخ.

حاولت هنا، حسب المستطاع وما يسمح به المَقام، أن أقدم فنانا مميزا تعرفت على فنه وشخصه مؤخرا عن بُعد، من خلال فيسبوك، وأرجو أن أكون قد وفقت بعضَ توفيق في إثارة فضول من لا يعرفه للإسراع لدخول عالمه الساحر والخاص، الذي هو، حسب فهمي، مفتوح للجميع ما عدا الموتى، موتى القلوب والأحاسيس بطبيعة الحال.

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها