هل المطلوب أن تكون السنة كلها رمضان؟

يجب أن يوجه العبد طاقته ليس في رجاء ما ليس مطلوبًا منه شرعًا، إنما في التأكد من صحة بداياته في العلاقة مع الله، بإخلاص النية في التقرب إليه، وبحسن الفهم لمقاصد العبادة.

بدموع وحنين ودع كثير من المسلمين شهر رمضان المبارك، ويتمنى كثيرٌ منهم -بحاله أو مقاله- أن تكون أيام السنة كلها رمضان، ويتوقعون أن يبقى مستوى الأداء التعبدي في أعلى مستوياته الروحانية التي كانت أثناء هذا الشهر الكريم.
وأعتقد أن هذا الشعور العاطفي والرباط القلبي تجاه هذا الشهر الفضيل، يعد من أهم بركاته ومن أبرز نفحاته، كما أنه دليل على يقظة أصحاب هذه القلوب وتأثرهم برحمات الله.

وحتى تهدأ هذه النفوس الوَجِلة التوّاقة بعد شهر رمضان، وتستأنف مسيرها الروحاني نحو الله بوعي وطمأنينة، يجب أن نستحضر المعاني الآتية، على أمل أن تحدث توازنًا يضبط الفهم، ويوضح معالم السير إلى الله في مواسم الطاعات:

– من المعلوم أن الله تعالى قد خصّ شهر رمضان بنفحات ربانية، ومحفزات روحانية لم تتوفر في غيره من الأشهر، مثل تصفيد الشياطين، وفتح أبواب الجنة، وإغلاق أبواب النار، وزيادة أرزاق العباد فيه، ونزول الملائكة، وعتق الله للرقاب في كل ليلة.

ولاشك أن هذا الاختصاص مقصودٌ لشحذ  همم العابدين، وتوليد مزيد من الطاقات من أجل التنافس في الخيرات؛ ولو أراد الله لعباده أن يكونوا على نفس مستوى الأداء الروحاني في غير رمضان لخصّ أيام السنة بمثل ما في الشهر الكريم من البركات والنفحات والأجر والثواب، ولكن اقتضت حكمته سبحانه أن يفضّل بعض الأشهر على بعض كشهر رمضان، ويميز بعض الأيام على بعض كيوم عرفة، والعشر الأُول من ذي الحجة …وغيرها، وأن يربط نيل هذه المكرمات بزيادة العمل الصالح والتنافس في الخيرات؛ وذلك حتى تكون هذه النفحات محطات للتزويد بالإيمان، ومعالجة للملل والسآمة، وفرصًا للصيانة من عقبات الطريق، ووقاية من عواصف الهوى والنزوات.

– الصيام، والقيام، والصدقة، والذكر...وغيرها من الطاعات مشروعةٌ في شهر رمضان على هذا النحو المضاعف في الأداء والثواب لتحقيق هدف التقوى الذي جعله الله المقصد الأسمى في شهر رمضان والزاد الأهم في حياة الصالحين. يقول تعالى: “وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب”(البقرة، 197).

ولذا كان من أهم مقاييس النجاح في شهر رمضان ليس الاستمرار على نفس مستوى المجاهدة في الطاعات التي كانت فيه، إنما يكون عند تحقيق هدف التقوى ببقاء أثرها في النفوس بعد انقضاء الشهر الكريم، بما يضبط جميع الحركات والأفعال والأقوال، ويحفظها من الانحراف عن طريق الله؛ إذ لا قيمة لصيام طال نهاره في رمضان أو في غيره، وقيام طال ليله، وطاعات امتدت بالليل والنهار بدون رؤية مرددوها في حياةٍ دائمة للأرواح، واستقامة ثابتة للسلوك، وصلاح فريد للأخلاق. يقول تعالى: “لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم” (الحج37).

– الاتباع هو الأصل في الجد والاجتهاد في العبادات والطاعات في رمضان وفي غيره؛ وهذا ما فعله -صلى الله عليه وسلم-  إذ سمح للأمة أن تنال شرف الاتباع له في المجاهدة في شهر رمضان؛ ولهذا أدّاها -صلى الله عليه وسلم- على نحوٍ ظاهرٍ ليُنقل عنه، وأكّدت الروايات أن فعله هذا لم يتكرر في غير رمضان.

جاء في الحديث: “كان -صلى الله عليه وسلم- يجتهد في العشر ما لا يجتهد في غيرها”.(رواه مسلم). ومثاله أيضًا: تميز كرمه وزيادة إنفاقه في رمضان. جاء في الحديث: “كان -صلى الله عليه وسلم- أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في شهر رمضان”. (رواه مسلم). وفي هذا توجيه مباشر للأمة أن ما تميز به رمضان من جد ومجاهدة مقصودٌ في هذه الأيام المباركة دون غيرها، والعابد حقًا هو من يُلزم نفسه بما اختُصت به الأيام المباركة اتباعًا لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وليس موافقة لرغبة أو هوى وإن كانت في شكل أداء طاعة أو ممارسة عبادة.

– العبادة في الإسلام أوسع وأشمل من أن تحصر في شهر معين أو أن تكون في شكل محدد؛ ذلك أن منها: ما هو فرض محدد في الزمان والمكان والهيئة، كالصلاة والصوم والحج… ومنها: ما يشمل شؤون الحياة جميعاً بشرط موافقة أحكام الشريعة، وإخلاص النية لله، وحسن الاتباع للنبي -صلى الله عليه وسلم- وعلى هذا فالعابدون المفلحون لا ينقطعون عن معبودهم في أي  زمان أو مكان أو حال، ولكن يحرصون على تنوع صور العبادة -مع تحقق شروطها- ويداومون على التواصل الشامل مع الله في جميع اللحظات واللفظات والخطرات والإرادات وذلك حتى يلقون ربهم.

ودور شهر رمضان في كل عام هو تربية الأمة على هذا المعنى الحقيقي للعبادة، وتزويدهم بمقومات الممارسة ما كُتبت لهم حياة. يقول تعالى: “قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ”(الأنعام:162).

وبناء على ما سبق ذكره، يجب أن يوجه العبد طاقته ليس في رجاء ما ليس مطلوبًا منه شرعًا، إنما في التأكد من صحة بداياته في العلاقة مع الله، بإخلاص النية في التقرب إليه، وبحسن الفهم لمقاصد العبادة، وبمجاهدة النفس، بدفع الهوى ليكون تبعًا لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم؛ فذلك طريق الفلاح في الطاعة، ودليل محبة المعبود للعابد، كما أنه إذن للعبد من المعبود بمواصلة مناداته ومناجاته حتى الوصول. يقول تعالى: “والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين”. (العنكبوت69).

والأهم من ذلك كله: هو حفظ المنجزات الإيمانية والعطاءات الربانية من محبطات الأعمال، ومهلكات النفوس، ومن قواطع الطريق نحو الله. يقول ابن عطاء: “ربما فتح لك باب الطاعة، وما فتح لك باب القبول، وربما قضى عليك بالذنب، فكان سببًا في الوصول. معصية أورثت ذلًا وافتقارًا خير من طاعة أورثت عزًا واستكبارًا.”

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها