هكذا حكمت المحكمة في قضية (النائب العام)

 

“بعد الاطلاع على أوراق القضية، حكمت المحكمة حضوريا، بتحويل أوراق المتهم إلى فضيلة مفتي الجمهورية، رفعت الجلسة”

تتعالى الزغاريد والتكبيرات، معلنة الابتهاج بالقصاص، من قاتل غادر، تتضاءل أمامها صرخات ذويه ونحيبهم المكتوم، تتحقق العدالة أخيرا بعد طول انتظار.

مشهدٌ نسجته أيادي السينما المصرية، ونقضته أيادي السيسي بالأمس القريب، لم تعد المحاكم المصرية ساحات لنشر الحق وتحقيق العدل، بل باتت مسالخ بشرية، يُبرأ فيها المجرم ويُقتل البريء..

تتوالى الإعدامات، في قضايا لا ترقى لأن تكون قصصا يعقلها عاقل، محاكمات هزلية، تبدأ بتحريات ضابط، على ورقة بيضاء، لا شهود، ولا أحراز، ولا أدلة، الحكم الذي يعرف القانونيون أنه أقسى عقاب يمكن أن ينزل بإنسان، لا رجعة فيه ولا نقض، ولا إعادة نظر تنفع معه، إزهاق روح بشرية كرمها الله، وأمر ألا تزهق سوى بالحق، تهدر بجرة قلم، تسبقها مكالمة هاتفية، وبعد المكالمة، يأتي الحكم،

(هكلملك القاضي) عبارة حُفرت بعقول المصريين ،جاءت بتسريب شهير للواء “عباس كامل” يرجو فيه اللواء “ممدوح شاهين” أن يساعده في الإفراج عن الضابط المتهم بقتل 37 نفسا بشرية بالمجزرة التي عرفت بمجزرة الترحيلات في أغسطس 2013 ، حين تعمد إلقاء قنابل غاز عليهم داخل عربة مصفحة ومغلقة، كقبو مشتعل تحت حرارة الشمس الحارقة لساعات طوال ، فماتوا جميعا مختنقين، محترقة جثامينهم، فجاءت النتيجة : الإفراج عن الضابط “إسلام” ابن العميد بالجيش “عبد الفتاح حلمي” بعد الحكم عليه بالسجن سنة واحدة مع إيقاف التنفيذ عقب مكالمة للقاضي!

هكذا بكل بساطة

ليس التدخل السافر في القضاء، وتسييسه وتطويع أحكامه هي السمة التي اصطبغت بها أحكام القضاء المصري منذ الثالث من يوليو 2013 وإلى اليوم، بل بات القضاء المصري خنجرا بيد السيسي يغرزه في خاصرة من يشاء من معارضيه،

فالقضاء الذي قضى ببراءة مبارك ووزير داخليته “حبيب العادلي” من قتل المتظاهرين في ثورة الخامس والعشرين من يناير، وخفف حكم الإعدام على “طلعت مصطفى” المتهم بقتل المطربة اللبنانية سوزان تميم، إلى السجن 15 عاما، بينما خرج قبل انقضاء المدة بعفو رئاسي من السيسي في سبتمبر 2017، ليحضر معه لاحقا مؤتمراته الاقتصادية،

والقضاء الذي حكم على المتهم الرئيسي في قتل 72 شابا مصريا من مشجعي الأهلي في مذبحة استاد بورسعيد “اللواء محسن شتا” بالسجن خمس سنوات، ولم يُسجنهم بالأساس، حيث تم العفو عنه قبل انقضاء المدة، بقرار رئاسي في سبتمبر 2016

القضاء الذي خفف حكم الإعدام عن راقصة تدعى (شمس) إلى السجن 15عاما، في يناير 2019، بعد اعترافها بقتل خادمتها في عام 2014، عقب خطفها وتعذيبها بأدوات حادة وسكب المياه المغلية عليها (لتعترف بارتكابها حادث سرقة)، وعقب الوفاة قامت بالتمثيل بجثتها وحرقها.

هو ذات القضاء الذي حكم، في أسبوع واحد بحكمين قضائيين مختلفين، الأول في 8 فبراير من العام الجاري 2019، بإعدام 3 مواطنين شنقًا بتهمة قتل نجل القاضي (محمود سيد المورلي) في قضية مهلهلة بدون أحراز أو أدلة أو شهود، والثاني في 11 فبراير من نفس العام، بالسجن 3 سنوات لـ 3 ضباط اعترفوا بقتل مواطن تحت التعذيب داخل قسم شرطة.

هو ذات القضاء الذي حكم بالإعدام على 9 متهمين فيما عُرف بقضية اغتيال النائب العام، ونُفذ الحكم في 20 فبراير 2019، بالمخالفة لقانون الإجراءات الجنائية الذي يقضي بعدم تنفيذ الإعدام في حالة وجود طلب بإعادة النظر فيه.

نُفذ الحكم بالإعدام على تسعة مواطنين ، في قضية لم تقدم فيها أدلة ولا أحراز، رغم انتشار الكاميرات بمكان وقوع الحادث (حي مصر الجديدة بجوار الكلية الحربية) ، ولم يستدع فيها شاهد واحد ، واكتفى القاضي بالاعتماد على اعترافات ، أنكرها أصحابها ، وقدموا ما يثبت أنها جاءت تحت التعذيب ، وانتشر مقطع فيديو للشاب “محمود الأحمدي” وهو يروي بالمحكمة وقائع تعرضه للتعذيب المروع والصعق بالكهرباء، فلم يهتم القاضي ، ولم يحولهم للطب الشرعي للكشف عليهم ، ولم يستمع حتى لأدلة قدمها البعض ، لإثبات اعتقالهم قبل أشهر من وقوع الحادث، مثل أحمد محروس الذي أكد أنه أُلقيَ القبض عليه في فبراير 2015، قبل الحادث بأشهر، ومن مكان عمله ، وقدم أسماء عدد من زملائه في العمل ليشهدوا لصالحه، إلا أن هيئة المحكمة لم تستدع أي شاهد ، كما تعرَّض عدد منهم للإخفاء القسري لشهور قبل إعلان اتهامهم في القضية، مثل أحمد الدجوى، الذي وثقت منظمات حقوقية اختفاءه قبل أشهر من إعلان اتهامه في القضية!

تم تنفيذ الإعدام بحق تسعة من المصريين، بعد إعلان وزارة الداخلية مرات عديدة عن تصفية واعتقال عدد من الأشخاص وبنفس التهمة،

فعقب الحادث بأربع وعشرين ساعة، وتحديدا في 30 يونيو 2015، قامت الوزارة بإعلان القبض على شخص يدعى “محمود العدوي” قالت إنه المتهم الرئيسي في الحادث.

ثم في الأول من يوليو 2015، قامت قوات الأمن بتصفية 9 من أعضاء جماعة الإخوان المسلمين داخل شقة سكنية بمدينة السادس من أكتوبر، وزعمت وقتها أن القتلى متورطون اغتيال النائب العام.

وفي نفس اليوم نشرت عدة صحف ومواقع إلكترونية وفضائيات تابعة للنظام صورا وتفاصيل عن ضابط الصاعقة السابق هشام عشماوي، الذي قالوا إنه العقل المدبر لعملية اغتيال هشام بركات،

ثم لاحقا، في فبراير 2016، أعلنت قوات الأمن عن تصفية 3 أشخاص، قالت إنهم ينتمون لجماعة “أجناد مصر” ومتورطون في عملية اغتيال النائب العام، وتفجير القنصلية الإيطالية،

حتى أن صحيفة المصري اليوم الموالية للنظام، وثقت ثلاثة بيانات وتصريحات متضاربة للوزارة، في شهر واحد، هو شهر مارس من عام 2016، بقتل وضبط متهمين مزعومين.

-النائب العام الذي خرج من الحادث يمشي على قدميه، بشهادة سائقه وحرسه الشخصي، متوجها إلى المستشفى لتلقي العلاج، لم تقدم لنا السلطة تفسيرا لمقتله، ولا صورة واحدة، من كاميرات أمتلأ بها موقع الاغتيال، تشرح لنا هذا اللغز العجيب، أو تثبت الجريمة على واحد وحسب من هؤلاء المتهمين، فقامت بتصفية بعضهم، وسجن  البعض الآخر، وإعدام آخرين، وكأن الشعب المصري بأكمله قد اتُهِمَ بقتل النائب العام، ونظام السيسي يتولى القصاص من الجميع!

بقيَ لنا أن نقول: أن مشاهد التعاطف الرهيب مع المقتولين غدرا بسيف القضاء، من أدنى العالم العربي إلى أقصاه، وعبارات الانتقاد شديدة اللهجة، التي صدرت من منظمات دولية وعربية، وعدد ضخم من الأفراد والهيئات والجماعات، وتصدرت بها مواقع التواصل الاجتماعي والصفحات، مشاهد الجنازات المهيبة، التي عجت بالمصريين على اختلاف توجهاتهم وأعمارهم ومنازلهم الاجتماعية، رغما عن بطش الشرطة وتشديدها القبضة الأمنية، بل وتعنتها في الإفراج عن الجثامين، والتي خرجت تباعا على مدار أربعة أيام!

كل هذا لا يعني، سوى أن المحكمة لم تقض بقتل هؤلاء الأبرياء، وإعدامهم، بل على العكس، قضت بإعدام القضاء المصري، وبمنح الحياة الأبدية لزمرة من شباب مصر، سُطرت أسمائهم بحروف من نور في تاريخ التضحية، كضحايا وشهداء.

 

 

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها