هزيمة الـ(50) عاما.. أنعى لكم (2)

عبد الناصر احتاج عامين كي يتخلص من المعارضة المدنية لحكمة؛ لكنه احتاج خمس سنوات هو وصديقة كي يسيطرا على الجيش، وكان يشعر بتهديد مبطن من عامر بسهولة الانقلاب عليه وعزله في أي لحظة.

أشرت كثيرا من قبل إلى ما كتبه الباحث الجاد د/شريف يونس بعنوان (الزحف المقدس أحداث 9/10 يونيو 1967) وهي الأيام التي خرج المصريون فيها حشودا هائلة إلى الشوارع مطالبين البكباشى بالتراجع عن قرار التنحي. يقول د/شريف “كانت هذه الحشود تعكس شعورا ووعيا متراكمين عبر 15 سنة من حكم جماعة الضباط الأحرار ومن ألحق بهم من المدنيين والعسكريين الآخرين، شكلت بالفعل أذهان الناس وعواطفهم وتوجهاتهم باستخدام تعبئة أيديولوجية متواصلة وكانت نتيجتها هي تحرك الناس على هذا النحو الفريد في تاريخ ـ الهزائم الكبرى ـ للأوطان.”

ويضيف الدكتور شريف إن مفهوم الزحف المقدس يعبر عن فكرة وردت في كتاب (فلسفة الثورة) ترى الشعب المرغوب فيه شعبا مفتتا إلى عناصره الأولية يسير أفراده ومؤسساته وراء الضباط كرجل واحد كما هو الحال تماما في الاستعراضات العسكرية.”

 ويضيف “أن شعبية عبد الناصر هي في أساسها صنيعة الدعاية التي قامت باللعب على الانتصار السياسي في معركة تأميم القناة 1956م والتضخيم من المكاسب التي حققتها في الأساس الطبقات الوسطى ـ لا الفقيرة ـ من أجل تصوير النظام باعتباره نظام الفقراء والكادحين. الناس كانوا كما لو أنهم كالقطيع الذي يمكن سوقه بلا وعي”، هي نفس الحشود التي خرجت بعد ذلك مبصرة تقول “لا صدقي ولا الغول عبد الناصر المسؤول”؛ لكنه هذه المرة أطلق عليها القائد المهزوم الطائرات الهليكوبتر تضربها بالرصاص، واخترع لها جيشا جديدا أطلق عليه “الأمن المركزي”.

يحكى لنا الفريق صدقي قائد القوات الجوية في شهادته المسجلة صوتيا بلجنة كتابة التاريخ 1976م “ولا يدري أحد أين ما كتبته هذه اللجنة؟ وما العبر الحقيقية المستفادة من هذه الهزيمة، وما مقدماتها والأسباب التي مهدت لحدوثها على هذا النحو المشين الذليل؟” يقول الفريق صدقي إن الرئيس عبد الناصر قال له في اجتماع كان يحضره الفريق أنور القاضي رئيس هيئة العمليات، واللواء علي عبد الخبير مدير الأركان بالقيادة العليا، واللواء صادق مدير المخابرات الحربية، وشمس بدران وزير الحربية، وذلك في القيادة العامة للقوات المسلحة، مكتب عبد الحكيم عامر، قال عبد الناصر: “على فكرة يا صدقي، أنا اتخذت قرار بأنك ما تضربش الضربة الأولي! ولأول مرة يعترض صدقي ويقول: “قرار إيه اللي أخذته سيادتك ده..؟” فقال الرئيس بحسم: “هو كده.. إحنا مش ها نضرب الضربة الأولي!”،

وحاول صدقي أن يوضح معني القرار ودارت مناقشة بينه وبين الرئيس وقال: “كوني أتلقي الضربة، إنها تشلني عن الحركة أو تعطلني”، وبعدها التفت الرئيس عبد الناصر نحو المشير ثم قال: “طيب يا صدقي، تحب تضرب أنت الضربة الأولي، وبعد كده تحارب أمريكا وإسرائيل؟” وسأله صدقي: هل سيادتك متأكد إن إسرائيل لو وجهت الضربة الأولي حاتكون وحدها برغم المعروف لنا من المخابرات؟ وكان جواب الرئيس: أيوه..! فقال صدقي: المسألة مش قادر أعقلها ولكن إذا كان كده يبقي أمري لله!

وقال الرئيس عبد الناصر بانفعال: “عموما الموضوع كله سياسي وسيتم حله سياسيا! ثم انصرف.”

الحديث كما هو واضح يشير إلى أن عبد الناصر كان يقدر أن تكون المسألة بحجم ما حدث فى 1956م (سياسية)..ويكون بعدها في موقف قوى أمام عامر بما يمنحه القدرة على عزله وإخراجه تماما من القوات المسلحة كونه مهزوما …ذلك أن عامرا ومن خلال القوات المسلحة قد استطاع أن يكون قوة موازية لقوة ناصر الشعبية التي كانت في أوجها بعد 56، وبعد باندونغ 57، وكان عامر كثيرا ما يشير في لقاءاته بناصر إلى أنه مصدر قوته وحمايته، وكان كثيرا ما يشير إلى أن المخابرات الحربية هي التي اكتشفت تنظيم الإخوان سنة1965م، وبالغ كثيرا في قصة هذا التنظيم حتى يزداد منه وتفضله على ناصر.

عبد الناصر احتاج عامين كي يتخلص من المعارضة المدنية لحكمة؛ لكنه احتاج خمس سنوات هو وصديقة كي يسيطرا على الجيش سيطرة تامة، وكان يشعر بتهديد مبطن من عامر بسهولة الانقلاب عليه وعزله في أي لحظة.

تقول كثير من الدراسات أن عبد الناصر كان يعرف بموعد الحرب على ما ذكر لنا عبد المنعم النجار سفير مصر في باريس وقتها، وكان يعرف أن الجيش القادم منهك من اليمن، وعبد الناصر كان مكسورا من سوريا بعد الانفصال، مصدعا من “شللية” عبد الحكيم عامر ورجاله، وكان يعرف أن هذا الجيش لا يستطيع مواجهة إسرائيل، ومع ذلك طرد القوات الدولية وأغلق المضايق وهى القرارات التي كانت تعنى مباشرة إعلان الحرب على إسرائيل، لكنه لم يكن يتوقع أن تسفر الحرب عن هذه النكبة الكبرى على الجبهات الثلاث (مصر وسوريا والأردن)، فقد توقعها حربا محدودة كما كانت في 56 والتي خرج بعدها منتصرا سياسيا.

وعليه فسيكون الأمر واحدا ويتخلص هذه المرة من عامر ومن وعصابته في الجيش، لقد اتخذ الرجل من الوطن وأمنه القومي ومن الشعب وسلامته مادة للعبة وضيعة يُلِبّس فيها عاره لغيره كما قالت الراحلة أروى صالح في كتابها (المبتسرون) الذي تقرأه كل يوم وكأنك تقرأه من جديد.

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها