مينا عوني يكتب: عن هؤلاء “الباقين” في “أرض الخوف”

قبل أن تقرأ المقال وتندهش أن “مينا” هو عضو بجماعة الإخوان المسلمين بمصر، دعني أريحك من عناء الاندهاش، فـ”مينا” هو اسم مستعار، مثله مثل مئات الذين قرروا أن ينسوا أسماءهم. يتبع

قبل أن تقرأ المقال وتندهش أن “مينا” هو عضو بجماعة الإخوان المسلمين بمصر، دعني أريحك من عناء الاندهاش، فـ”مينا” هو اسم مستعار، مثله مثل مئات الذين قرروا أن ينسوا أسماءهم كي يكونوا أشخاصا آخرين يتيح لهم اسمهم الجديد مرونة نسبية في منظومة مقاومة نظام عسكري مجرم.

دعك قليلاً من “مينا” – الذي يغير من اسمه المستعار  مرات عديدة في العام الواحد – ولتتذكر  رائعة داوود عبدالسيد “أرض الخوف”، وقبل أن تبدأ عليك أن تدير في الخلفية موسيقى “راجح داوود”، بطل القصة “يحي المنقباوي” ضابط قرر رؤساؤه أن يزرعوه وسط عالم تجار المخدرات، من فتوة في ملهى ليلي إلى أن يكون أحد أهم تجار الصنف” وليكون اسمه “أبو دبورة”.

في “ديالوغ” رئيسي “ماستر سين أرض الخوف” يقول “أبو دبورة”: أنا لما إبتديت المهمة كنت قادر أشوف كل حاجة بوضوح ، كنت متأكد من اللى باعمله، بعد كده ابتديت أحس إن أنا باشوف الصورة من ورا الإزاز، وبالتدريج ابتدت كدة تتكون طبقة زى التراب، لكن التراب ابتدا يزيد لدرجة أن انا مابقيتش شايف أى حاجة، صورة ضبابية، الذكريات اختلطت مع الأحلام مع  الأوهام، مع الحقايق وفى الفترة الأخيرة باحلم بكوابيس واصحى خايف مش عارف ليه ! بقيت حاسس ان محكوم علىَ بالوحدة، متعلق مش عارف امسك حاجة بإديه ولا فيه أرض تحتيه، وبسأل نفسي سؤال: هو ليه أنا بقيت كده؟”.

نعد مجددا إلى مينا.. ونادر وحاتم ومحمد وجهاد وسعد وعلى وحسن وسيد وسامح وعبدالله ومنى وليلى وسمية وهبة، كل هؤلاء رفقاء “مينا”، وأسماؤهم مستعارة مثله، لم يكونوا يوما سوى “يحيى منقباوي”، لم يتحولوا إلى “تجار مخدرات” كـ”أبو دبورة”، لم تتكون أمام أعينهم طبقات تراب، ولم تكن الصورة قبالة أعينهم ضبابية، وأحلامهم لم تختلط بالأوهام، كل ما فعلوه أنهم نحوا حياتهم جانبا، وقرروا أن يعيشوا حياة مختلفة بأسماء مختلفة في “أرض الخوف”.

مما هو متعارف عليه لدى سكان “أرض الخوف” من “رفقاء مينا” أن الهاتف المحمول ” الموبايل”، مثلا، يتغير في  الشهر مرة أو مرتين تحاشيا لتقنيات بصمات الصوت المسجلة عند السلطة العسكرية، كلما ينهون محادثة يمسحونها تفاديا لـ”كمين” شرطي، وإذا قرروا التنقل بين محافظتين أو أكثر فعليهم أن “ينظفوا” هواتفهم لا صورة لا إيميل لا برنامج محادثة، يتحول الهاتف إلى قطعة حديد.
رفقاء مينا،  لاجئون في الوطن، أو ربما يمكن وصفهم بـ”النازحين”، فهؤلاء لا يعيشون في بيوتهم التي تربوا فيها، أو تزوجوا فيها، يتركون ذكرياتهم، ينحونها جانبا،

فالمداهمات الشرطية لا تترك شيئا، ينتهكون الأعراض، يروعون الصغار، يسرقون الأموال، يدمرون “نيش” الزوجة اللطيف، يخطفون الزوج “رفيق مينا”، أو ربما يقتلونه أمام أعين أسرته، القتل هنا له نوعان، سريع بالرصاص، أو رميا من فوق عمارته السكنية، أو بطيئا بالاختطاف وهو حي، فيخفونه قسريا لأشهر، وأحيانا يظهر، وكثيرا لا يظهر، وربما يتلقى أهله اتصالا هاتفيا من مجهول يبلغهم فيه بضرورة استلام جثة “رفيق مينا” من المشرحة.

رفقاء مينا، هم الباقون من “الإخوان” أو مؤيدي الديمقراطية، هم الذين تراهم في بقايا مظاهرات، أو في أخبار التصفيات الجسدية، أو في بيانات الاختفاء القسري، أو في البيانات الشرطية المصورة والتي يظهر فيها مصلحون يعترفون بأنهم مرتكبو جرائم تضر بالمجتمع، صوت خفي يقول لهم”أنتم متهمون بأنكم تريدون ثورة على الظلم”.

“رفقاء مينا” هم الذين لا يعلمهم كثير، لم يكونوا يوما قياديين كبارا في التنظيم، يمكن القول إنهم كانوا الصف السابع وربما الثامن في الترتيب القيادي، فجأة وجدوا أنفسهم في المقدمة، كل من حولهم إما قُتل، أو سافر، أو ااعتقل، أو قرر أن ينضم إلى المنتظرين للحظة شبيهة بلحظة يناير وحتى ذلك فعلينا أن نعد أنفسنا، وآخرون يرون أن الطريق المسار فيه خطأ وأننا في طريق تيه ننتظر جيلا مختلفا معه, مجددا كان أو جديد، وبقايا كبار يتصارعون على بقايا تنظيم.

 بين كل هؤلاء وغيرهم قرر “رفقاء مينا” إبقاء الشعرة باقية، يحافظون على الجسر بين اللحظتين، لحظة الخفوت والإضاءة، يبقون الباب موارباً، يتدافعون مع العسكريين ومجموعات مصالحهم، يحاربون بسيف خشب، كسيف المغربي مجذوب الحسين الذي يرى ما لا يراه الآخرون، بلاهته “طيبته” سر فشله.

“رفقاء مينا” ليسوا ملائكة، وليسوا مجاذيب، وليسوا خارقين للعادة، بشر خطاؤون، يحبون الحياة، ويعشقون الموت، يتألمون, كثيرون، واقفون عند لحظة الانقلاب والمجزرة، لم يتجاوزوا هاتين اللحظتين منذ ذلك الحين. حياتهم، تجوالهم، ترحالهم مرهون بهاتين اللحظتين. أحلامهم توقفت عندهما، حتى نفوسهم التي آلفوها متروكة عند بابي اللحظتين زمانا ومكانا، تمر بهم الأيام، صنعوا عالمهم المنفصل عن كل شيء سوى المتصل باللحظتين، عالم خاص شديد الخصوصية كل شيء فيه “سري” طَي الكتمان.

“رفقاء مينا” هؤلاء يخافون السفر والبعد، في الحقيقة إنهم يخشون نسيان اللحظتين، ويخافون الزمن الذي يمر، حتى فكرة الانسحاب والاعتزال نفسها  مستحيلة بل إن مجرد التفكير فيها عندهم قاتلة.. يرون أنه في أرض الخوف لايجوز “الانسحاب أو الاعتزال أو الانتظار أو الاتكال على أحد، في أرض الخوف مجموعة لابد لها من أن تكون همزة وصل أو شعرة معاوية التي لا يجوز أن تنقطع .. مجموعة يجب أن تظل كما هي، أن تظل يحيى المنقباوي”. 
    

مينا عوني
مدون مصري

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها