مواطن بلا وطن

اعترف السيسي بالآثار الاقتصادية الخانقة التي تسببت فيها خطة الإصلاح الاقتصادي لكنه حث المصريين على التحلي بالصبر

نرى العمال المصريين العالقين الذين أخرجهم بؤس المعيشة، لكن مع تداعيات جائحة فيروس كورونا، فقد الآف منهم وظائفهم ورفضت الحكومة استقبالهم ففترشوا الصحراء واتخذوا السماء غطاء

بعد  استقرار شكل الدولة الوطنية، أصبح لكل دولة شكلها، وسكانها، ودستورها، ومساحتها الجغرافية المحددة والمعروفة.

وعُرفت الدولة بأنها مجتمع أو شعب يعيش أو يسكن داخل رقعة من الأرض، تُسمى الوطن،وقد توافق الشعب على اختيار بعضه ليمثله في إدارة هذا الإقليم أو تلك الدولة، فيما عُرف بالحكومة، فمن الشعب وُلدت هذه الحكومة، ومن رحمه خرجت،تحمي أمنه وترعى مصالحه، وتصون حدوده من أي اعتداء خارجي.

وعلى هذا الأساس تم التعاقد بين الشعب وحكومته التي اختارها لتتولى تطبيق القانون الذي ينظم شئون تلك الدولة، والذي عُرف بالعقد الاجتماعي.
ثم احتاج الناس مع كثرتهم واختلافهم إلى وضع وكتابة قوانين ودساتير تنظم شئون حياتهم المدنية المتشعبة، وكانت الدولة وسيلة لتنظيم هذا السلوك البشري، وطريقة لفرض المبادئ السلوكية، التي تنظم الأفراد والجماعات على أساسها. ووضعت هذه القوانين تلبية لمطالب قائمة، وتمشياً مع رغبات أولئك الذين يعيشون في حدود تلك الدولة، وسلطة الدولة المكتسبة مادية ومعنوية من الشعب، وهذه السلطة هي الصورة الفعالة لإشباع هذه المطالب لرعاياها؛ ويتوقف مدى صلاحية الدولة على مدى نجاحها للاستجابة إلى هذه الرغبات. وقد كان من أسباب اندلاع الثورة الفرنسية استحالة إشباع مطالب رعايا الدولة التي تقع على عاتق هيئاتها.
ثم انقلبت هذه الحكومات على شعوبها، وتحولت إلى نظم مستبدة، أو سلطات أوليجارشية، ففي انجلترا مثلاً، اقتصرت الحقوق السياسية على الطبقة المتوسطة، وبالتالي غلب على التشريع طابع الطبقة المتوسطة.

وفي أمريكا لا حق مطلقاً لصاحب البشرة السوداء، وفي فرنسا لا يحق للمرأة التصويت والاختيار! وبعد عقود بدأت الشعوب تستيقظ، وتهب لنيل حقوقها، في مواجهة هذه السلطات الغاصبة، وخرجوا في احتجاجات، وحركات، وثورات؛ كانت نتيجة لإساءة الدولة إلى شعبها، وإساءة استخدام حقها، وانتهاك القانون والدستور، حتي أصبح الشعب مستعداً لأن يُظهر انشقاقه على الدولة؛ ومقاومتها.
حتي استقر النظام الديمقراطي في البلاد الغربية، الذي عمل على تطبيق القانون والشرائع الضامنة لكافة حقوق المواطنين؛ من أمن المواطن الشخصي، وسبل العيش الكريم؛ والحرية، والمساواة، والحق في العمل، والتعليم، وحرية التعبير عن الرأي، والاجتماع بالغير، والاعتراف بأن الجنس والعقيدة الدينية والمولد والثروة، لا تقف حائلاً دون ممارسة الحقوق المدنية…إلخ. ولن تتحقق تلك المطالب، والرغبات إلا في حكومة تكون مُجبرة بناء على مبدأ دستوري، أن تجعل هذه الرغبات محل اعتبار تام. وأن التمييز بين المواطنين في المعاملة، يُعد هجوماً على هدف الدولة، وإنكاراً لغايتها، وانحرافاً نحو تحقيق مصالح الأغنياء.

متى يحن هذا الوطن على أبنائه الذين حنوا إليه؟ ومتى يسمع حكامه صرخاتهم واستغاثاتهم ويلبون رغباتهم في لم شملهم بأولادهم، في هذه الظروف العصيبة

وفي بلادنا التي قاومت شعوبها المستعمر والمحتل الذي جثم على صدورهم سنوات طويلة، حتي اندحر وحمل عصاه ورحل؛ وظنت تلك الشعوب المنتصرة والمضحية بكل غال ونفيس بأن حكومتها الوليدة سوف تكون على قد هذه التضحيات، وسوف تعمل على نهضة هذه الشعوب وتقدمها وحماية حقوقها وحريتها.
ولكن للأسف لم تولد هذه الحكومات ولادة شرعية، عبر اختيار حر من الشعوب، ولم تُشَّرع لهم ما يحقق رغباتهم، ويحمى مصالحهم. بل جاءت حكومات عسكرية بانقلابات خادعة، وانتظرت الشعوب أن يتحقق لها ما كانت تنتظره، وطال انتظارها، وضاع أملها، وتبدد شملها، وأخذت الحكومات العسكرية المستبدة تعمل على انتهاك القانون وتعطيله، وتكميم الأفواه، وإلغاء كل أشكال الديمقراطية؛ من التعددية وتشكيل الأحزاب، وحرية الاختيار، والانتخاب الحر، واستعملوا القوة والقتل أمام كل صوت معارض أو منادي بالتغيير، وانتهكوا جميع حقوق المواطن، وحٌرم من كافة حقوقه المنصوص عليها في الدستور والقانون، ومن التعليم الجيد، وفرص العمل والوظيفة، والزواج، والعلاج، والسكن النظيف، والطرق الآمنة، والغذاء والمياه الصحية المتوفرة، والمساواة والعدالة الاجتماعية، وأغلقوا الباب أمام كل أمل للشباب والأجيال الجديدة في مستقبل أفضل.
مع غياب كل هذه الحقوق، حدث الانفصام النكد بين المواطن وبين الوطن، واتسعت الفجوة بينهما، وانكسر الانتماء للأرض والوطن

وأصبح المواطن يُفضل المغامرة في ركوب المراكب المتهالكة ليفر من وطنه الذي سلبت حكومته حقوقه، ويهاجر في مواسم مستمرة إلى الشمال، في رحلة غير شرعية، محاطة بالمخاطر، يبيع فيها كل ما يملك ليدفعه ثمناً لرحلة يعلم مسبقاً بأنها محفوفة بالمهالك في مياه المتوسط ! ورغماً عن ذلك يغامر باحثاً عن الأمن والحرية والكرامة الإنسانية، والعمل والتقدير الشخصي.

ولم تنته محاولات هروب هؤلاء الشباب الذين ضاقت عليهم أنفسهم، وضاقت عليهم أرض أوطانهم بما رحبت، فقد حرمهم المستبدون وأعوانهم حقوقهم، ولم يعد لديهم ما يبكون عليه. وغيرهم ألوف من المهنيين الذين يهاجرون شرعياً بحثاً عن فرص عمل أفضل، أو حياة أكرم، وفي الغالب لا يعودون إلي أوطانهم.
لقد كان النفي عقوبة الأحرار الذين يقاومون المحتل، ليحرموه من وطنه، الذي قام للدفاع عنه، والتضحية من أجله، فقد نفي الاحتلال أحمد عرابي، وسعد زغلول،(( ومن قبلهم كانت عقوبة سيدنا لوط وشيعته؛ طردهم من قريتهم ووطنهم، بسبب أخلاقهم)). وأخرجت قريش سيدنا محمد من أحب البلاد إليه، عقاباً لتمسكه بدعوته. أما اليوم فقد أصبح النفي الاختياري نتيجة لحكم الاستبداد، الذي صنع فجوة بين الوطن والمواطنين.

مع غياب كل هذه الحقوق، حدث الانفصام النكد بين المواطن وبين الوطن، واتسعت الفجوة بينهما، وانكسر الانتماء للأرض والوطن

واليوم نري العمالالمصريين الذين تقطعت بهم السبل ، الذين أخرجهم بؤس المعيشة، وغياب الأمل في حياة أفضل؛ ليبحثوا عن لقمة عيش كريمة، وعملاً يسد رمق أولادهم، ويكفيهم سؤال اللئيم، ومع تداعيات جائحة فيروس كورونا، فقد آلاف من هؤلاء وظائفهم، واضطروا للعودة إلى وطنهم، الذي رفضت حكومته استقبالهم، ومازالوا حتى كتابة هذه السطور يفترش الصحراء والعراء، ويتخذ السماء غطاء، بلا طعام ولا شراب. وقد نشرت وسائل التواصل صورهم المؤلمة، واستغاثاتهم  لفتح أبواب العودة أمامهم ، وقد بُحت أصواتهم من الإلحاح على حكومتهم لإرسال طائرة لنقلهم، أو تسهيل عودتهم إلى أهلهم وأولادهم. ولكن دون استجابة.
والعجيب.. أنه في الوقت الذي ترسل فيه كل دولة طائرتها لتجلي رعاياها من دول العالم، ليستقروا بين أسرهم، وفي أحضان أوطانهم الدافئة، نجد هؤلاء المصريين  منذ أسابيع لا يسمع أحد لصرخاتهم، ولا يرق لبكاء أولادهم، الذين ينتظرون عودتهم، حتى أن أحد العالقين أخذ يبكي ويقول: أريد أن أموت بين أولادي!!
فمتى يحن هذا الوطن على أبنائه الذين حنوا إليه؟ ومتى يسمع حكامه صرخاتهم واستغاثاتهم ويلبون رغباتهم في لم شملهم بأولادهم، في هذه الظروف العصيبة جراء جائحة كورونا، ولسان حال هؤلاء العالقين يقول: إن المصائب لا تأتي فرادى!

 

 

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها