من أنا؟!

نجهل من نكون لأن وسائل التواصل أشغلتنا عن أنفسنا، لأننا نعيش حياة غيرنا ونمد أعيننا إلى ما مُتّعوا به متناسين أنّنا متعنا بآلاف القدرات.

لطالما كرهت الفلسفة وما قرب إليها من قول أو عمل، أو “حصص ولم أشك يوماً أن ما يُكتب في مناهجنا الدراسية عنها هو من تلبيس إبليس وخلط الأوراق وتعقيد الكلام البسيط ولفّه بغلاف من الألفاظ التي لا يقوى العقل على فك طلاسمها فتكاد تقرأ كلمات تعرفها وضعت في جملٍ لا غير مفيدة، غير مفهومة .
بعيداً عن كل هذا الاستطراد وعودة إلى عنوان المقالة الذي قد يبدو فلسفياً لكنه كُتب بقلم ناقم على كل الفلاسفة والمتفلسفين بدءاً بأرسطو وأفلاطون وختاماً بمدينته الفاضلة التي لم ولن توجد إذ إن المدن الفاضلة التي نقطنها تحمل كثيراً من الوجوه تحت الوجوه وتحفل بالأقنعة الخادعة والكثير الكثير من الأفعال غير الفاضلة!

هذا كله أيضاً لا يهم إلا بمقدار كانت مصلحة اجتماعية تحاول إعمال قلمها لحل هذه الأزمات واكتشاف دواء سحري يخلصنا منها، ولحسن حظكم أنني لست كذلك.

من أنا؟ ومن نحن؟
ولمَ نعمل ونعمل ولا نصل، لم نعيش بؤس الشيب ولا يزال ريعان الشباب يلوّح لنا ونحن في مقتبله؟ لمَ نجهل من نكون وما نريد أن نكون؟ لم نُصر أن نكون في صف البؤس والأحزان ولا نفضل جو الإيجابية وحسن الظن التفاؤل؟ كيف صارت هذه المفردات تابعة لما نسميه هذيان مدربي التنمية البشرية والذين هم على رأي الكثير “فاضيين أشغال يَفترض كل منا أن الآخرين سعداء إذ وزعت السعادة عليهم لكننا وفقاً لحظنا العاثر لم نُصب منها ناقة ولا جملاً، وغادر السرور أيامنا ليحط رحله في سلال قوم آخرين، لهذا وبمعادلة بسيطة نرى أن مجموع السعادة على ظهر كوكبنا أقل بكثير مما يظنّه الناس إذ نركض جميعاً ولا يصل إلا القلّة، فكما يقل أن تجد في الإبل راحلة، يقل أيضاً أن تجد مشمّراً عن ساعديه يواجه قوة الدنيا بما أوتي من عزم .
نجهل من نكون لأن وسائل التواصل أشغلتنا عن أنفسنا، لأننا نعيش حياة غيرنا ونمد أعيننا إلى ما مُتّعوا به متناسين أنّنا متعنا بآلاف القدرات لكن عين الذم عن كلّ حسن عليلة وعين السخط مفتحة تحصي ما غاب عنها من نعم .
نقارن أنفسنا بكل ما لم نملكه، نقلل من شأننا ونردد أننا جرم صغير ونفترض أن كل مشهوري الفيس وتويتر فيهم انطوى العالم الأكبر وحازوا الخير الأعظم لأن حياتهم خلف الشاشات براقة .
رغم أنّنا نعلم بالضرورة أن المرء بالطبع لن يوثق إلا لحظاته الجميلة ولن يضع لنا لحظات ضعفه وخذلانه وفشله، لكننا رغماً عن هذا كله نُصر على بكاء أطلالنا التي ما حَوت إلا كومة من الأحزان.
انظر إلى نفسك مراراً قم بجمع كل ما حصلت عليه في حياتك من شهادة الصف الأول ختاماً بما وصلت إليه اليوم، تذكر نجاحاتك .. تذكر ابتسامتك في وجه خلق كُثر كانت ابتسامتك فيض نور لهم ذات يوم غابت فيه شمسهم، تذكر أنّك ذاك القريب البار من والدته، الحبيب لأخته وكل من يحبه، تذكر أن كذلك أن العمر لا يزال فيه متسع لتكون كذلك، اجمع كل تفاصيلك وكل ما تخطه ذاكرتك من أحداث صنعتها .. وردد أمامها وبقوة ” هذا هو أنا! بعيداً عن كل الحياة التي نشاهدها خلف الشاشات حري أن نعلم أنّها لا تمثل من الحقيقة إلا ربعها ولا تبين لنا من حياة الآخرين إلا ما أرادوا اطلاعنا عليه.

وكم من وجوه نعلمها تخفي وجوهاً لا نعلمها، وخلف كل شخص نعرفه شخص لا نعرفه، وخلف كل خيبة واستسلام وحزن نعيشه، قرار اخترناه بأنَفسنا، أنفسنا التي لم نعرفها يوماً رغم أنها كانت الأقرب إلينا .. من أنا؟
أنا اللحن الذي يطربني  والخيبة التي تشرق منها الشموع، الشموع التي تنطفئ مراراً فأشعلها مجدداً .. أنا الذي لا أحد يعرفني، ويكفيني أن أعرفني وأتصالح مع نفسي وأصفق لكل عمل رائع أراه وأدرك أني لم استطع فعله
أنا ونحن ” أولئك الذين غاصوا في بئر يوسف تارة وفي بئر الأخطاء تارة وفي آبار كثيرة متنوعة متعددة كطقس إسطنبول الحافل بكل الفصول في يوم واحد.. أنا الفعل الذي أفخر به والقوة التي أمتلكها لمواجهة كل هزيمة، أنا الضعف والدموع والأحزان التي تنتابني أمام صعوباتي، الصعوبات التي لا يعلمها غيرنا، والذكريات التي تؤلمنا، والماضي الذي يحاول مراراً أن يقول لنا هيت لكم! فنقول معاذ الله إنه ربنا أحسن مثوانا وبارك بنا وجعلنا خلفاءه، أيجدر بنا بعد كل هذا أن نحسد الآخرين من خلف الشاشات، وننعى أنفسنا التي نراها رأي عين ليس بينها وبيننا حجاب، أتكون بهذا الوضوح أمامنا تطلب منا تشكيلها بإرادتنا فنشيح بأنظارنا بعيداً عنها، بعيداً حيث أضواء المشاهير وأضواء أبطال السوشيال ميديا، التي جعلت الكثير يمقت واقعه ويتمنى واقعا براقاً لامعاً، وحياة حلوة في تلك المدينة الفاضلة .
متناسياً مدينته الفاضلة التي تطلب منه مراراً أن يسقي جذورها الممتدة إليه ويبحث عن نفسه فيها ويصنع رقماً صعباً وحلماً شاهقاً علها تخرج منه نبتة طيّبٌ أُكلها تنشر خيراً عظيماً ويبقى عظيماً وإن لم تنقله الشاشات لنا، يكفيه عظمة أنه كان قويا بما يكفي ليقول أنا هنا ولي أثر وسيطلع من عتمتي قمر .. كان قوياً بما فيه الكفاية
لكسب شرف المحاولة! نتطلع لتلك المدينة الفاضلة لا التي ابتدعها أفلاطون بل التي سنبدعها نحن بأحلامنا المعلقة وآمالنا فيها التي لا تتم إلا حين نعرف جواباً نواجه به سؤال: من أنت وما صنعت في دُنياك؟ 

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها