مصر وسد النهضة هل كان بالإمكان أفضل مما كان؟

 

أخيرا وبعد سنوات من المماطلة حينا والتسويف حينا والرفض في أحيان كثيرة وبعبارة واضحة لا مواربة فيها ولا تجميل، إثيوبيا تعلنها وبصراحة بعد سنوات من المفاوضات وعلى لسان وزير خارجيتها جيتاشو “الأرض أرضنا والمياه مياهنا والمال الذي يبنى به سد النهضة مالنا، ولا قوة يمكن لقوة أن تثنينا وسنفعل ما نريد”.  

ما وصلت إليه أزمة سد النهضة من نتائج كانت متوقعة من وجهة نظري في وقت ظن كثيرون أننا نهول الأمر عندما حذرنا طوال السنوات الماضية من أن هذا المسار التفاوضي لن يجدي نفعا لأنه وباختصار مسار خاطئ وسير في الاتجاه العكسي ومضيعة للوقت في ظل عدم توصل المفاوضات لأية اتفاقات أو وقوفها على أية نقاط أساسية للتفاوض حيث تغيرت أجندة المفاوضات كثيرا وفي كل مرة كانت النتائج صفرية وكان السد يكمل مشواره نحو الاكتمال وتمام البنيان.

وهنا أعود بكم إلى بداية الطريق وأرد على من سألوني هل ضاعت حقوقنا في مياه النيل؟ وهل كانت هناك حلول أفضل ومسارات تفاوضية أنجع؟ نعم بالتأكيد كان دائما هناك مسار أفضل للتفاوض ولا يعتمد بالضرورة على الناحية الفنية التي غرق فيها المفاوض المصري لأخمص قدميه وأعطت الطرف الإثيوبي اعترافا بمشروعية السد أيا كان حجمه أو مواصفاته.  

الإخطار المسبق

 يفترض القانون الدولي أن لا يبدأ تشييد أي سد على النيل إلا بعد إعطاء الدول المتشاطئة، إخطارا مسبقا، ولكن السودان ومصر، عام 2011، تخليا عن هذا   الحق، وسمحا لإثيوبيا بالتشييد من دون إعطائهما إخطارا مسبقا، بل وباستمرار التشييد أثناء المفاوضات وهذه هي النقطة الأهم حيث كان الأفضل أن تطلب مصر والسودان بحقهما في الإخطار المسبق.

بل الأخطر من ذلك أن التفاوض كان يجب أن يكون قانونيا وليس فنيا ولا يمكن أبدا البدء في الحديث عن السد وحجم البحيرة والاعتراف أساسا بإقامة سد إلا بعد أن يتم دراسة الأمر من الناحية القانونية حيث إن هناك أكثر من 15 اتفاقية بين مصر والسودان وإثيوبيا تنظم هذا الأمر حتى لو أنكرتها إثيوبيا.

ونستعرض هنا الشق القانوني الذي تركه المفاوض المصري وذهب إلى الشق الفني وتفاصيله التي استغرق التفاوض فيها أكثر من 9 سنوات مضنية لم تتوصل لشيء ووفقا لتقرير أعدته الهيئة العامة للاستعلامات المصرية، فإن مصر تحتفظ بـ 15 معاهدة واتفاقية دولية، سواء على المستوى الثنائي أو الإقليمي، لاستغلال مياه نهر النيل،

 وبالرغم من أن بعضا من هذه الاتفاقات كان في فترات الاستعمار إلا أنها رسمت العلاقات الحالية بين مصر ودول الحوض، وبالرغم من رفض إثيوبيا لها فإن هذه الاتفاقات ملزمة وقانونية ويعترف بها العالم في أي صراع قانوني بين مصر والسودان وإثيوبيا مثلها مثل أية اتفاقات خاصة بترسيم الحدود.

الاتفاقات السابقة:

وللعلم فإن 5 اتفاقات من الـ 15 اتفاقية تم توقيعها مع إثيوبيا وحدها، منها على سبيل المثال بروتوكول روما الموقع في 15 أبريل من العام 1891 بين كل من بريطانيا وإيطاليا التي كانت تحتل إريتريا في ذلك الوقت بشأن تحديد مناطق نفوذ كل من الدولتين في أفريقيا الشرقية، وتعهدت إيطاليا في المادة الثالثة من الاتفاقية بعدم إقامة أية منشآت لأغراض الري على نهر عطبرة يمكن أن تؤثر على تصرفات النيل.

وبعيدا عن الاتفاقات الثنائية المصرية السودانية التي ترفضها إثيوبيا، أُذكر بأن أهم هذه الاتفاقات على الإطلاق  هو اتفاقية أديس أبابا الموقعة في 15 مايو 1902 بين بريطانيا وإثيوبيا، تعهد فيها الإمبراطور منيليك الثاني ملك إثيوبيا بعدم إقامة أو السماح بإقامة أي منشآت على النيل الأزرق أو بحيرة تانا أو نهر السوباط من شأنها أن تعترض سريان مياه النيل إلا بموافقة الحكومة البريطانية والحكومة السودانية مقدماً، وهو ما أراه أهم اتفاق بشأن النيل بين السودان ومصر وإثيوبيا، وإن عدم اعتراف إثيوبيا به يجعل هذه الأراضي من حق السودان .

بل إن منطقة بني شنقول التي بني فيها السد الإثيوبي الحالي محل النزاع تعود إلى السودان، وفي هذه الاتفاقية تم منحها لإثيوبيا مقابل ألا تقام أية منشآت على النيل في هذه المنطقة من شأنها تعطيل سريانه ومنع جريانه.

ومن ضمن هذه الاتفاقات اتفاقية لندن الموقعة في 13 ديسمبر 1906 بين كل من بريطانيا وفرنسا وإيطاليا، وينص البند الرابع منها على أن تعمل هذه الدول معاً على تأمين دخول مياه النيل الأزرق وروافده إلى مصر، تليها اتفاقية روما وهي عبارة عن مجموعة خطابات متبادلة بين بريطانيا وإيطاليا في 1925، وتعترف فيها إيطاليا بالحقوق المائية المكتسبة لمصر والسودان في مياه النيل الأزرق والأبيض وروافدهما، وتتعهد بعدم إجراء أي إشغالات عليهما من شأنها أن تنقص من كمية المياه المتجهة نحو النيل الرئيسي.

يضاف للاتفاقات السابقة الاتفاق بين ميلس زيناوي وحسني مبارك في عام 1993 ونص على التعاون المشترك بين البلدين وتبادل المعلومات حول المشروعات على النيل وتضمن عدم قيام أي من الدولتين بعمل أي نشاط يتعلق بمياه النيل قد يسبب ضرراً بمصالح الدولة الأخرى، وضرورة الحفاظ على مياه النيل وحمايتها، واحترام القوانين الدولية، والتشاور والتعاون بين الدولتين بغرض إقامة مشروعات تزيد من حجم تدفق المياه وتقليل الفاقد

نقاط قوة:

وبالنظر الى النقاط القانونية التي أردت ان أقدمها للقارئ الكريم ليعلم أنه كان لدى المفاوض المصري والسوداني نقاط قوة تمكنه من التفاوض القانوني بدلا من الفني، وإن السير في اتجاه خاطئ كان لابد له من نتائج خاطئة وكارثية ضيعت حقوق مصر والسودان، ومصر تحديدا وأعطت إثيوبيا الوقت لكي تبني السد تحت ستار التفاوض والتفاهم، وهذا ما تريد أن تكمله إثيوبيا باستمرار عملية  التفاوض الشكلي والوهمي حتى يتم افتتاح السد ولا يوصف السد بأنه سد عدائي ولم يتم الاتفاق عليه ولم تعترف به مصر.

وهنا نعود ونجيب عن سؤال مهم هل ضاعت الفرصة لإثبات حق مصر؟ أقول لا وبالرغم من أن اتفاق المبادئ الذي اتخذته إثيوبيا ذريعة لاستكمال السد بعد اعتراف مصر والسودان بالسد فإن هذا الاتفاق وفي البند رقم 5، من إعلان مبادئ سد النهضة لسنة 2015 ربما يحمل حلا عاجلا للخروج من هذه الورطة التي وضع السيسي فيها المصريين والتحلل والتخلص  من هذا الاتفاق باستخدام هذا البند الذي نص على أن تجري المفاوضات ” بالتوازي مع عملية بناء السد “، وبما أن إثيوبيا رفضت التوقيع والتفاوض ورفضت إيقاف بناء السد فإن هذا الاتفاق يصبح لا غيا ويحق لكل من السودان ومصر إثيوبيا بوقف التشييد، إلى حين عودة إثيوبيا إلى طاولة المفاوضات، علي أقل تقدير، أو إلى حين الفراغ من المفاوضات.

الحقيقة واضحة الآن رغم مرارتها لكنها تحتاج إرادة سياسية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه باتخاذ قرارات مسؤولة لن تعالج ما تم من أخطاء لكنها ربما تمنع ما سيترتب على تمرير السد الإثيوبي بهذا الحجم وبكمية مياه يتم تخزينها في البحيرة لا تقل عن 74 مليار، وقد تصل إلى 100 مليار متر مكعب وما يترتب على ذلك من أضرار بيئية على دولتي المصب.

 الاعتراف المجاني

وهكذا يظهر من السرد السابق أنه كان بالإمكان دائما أفضل مما كان، وأن السير في مسار فني كان خطأ يستحق المحاسبة وربما يصل إلى المحاكمة لأنه أعطى اعترافا مجانيا لإثيوبيا بإقامة سد على النيل الأزرق _بشكل منفرد _حيث استمرت مصر تفاوض في حجمه وبحيرته وارتفاعه ومعامل أمانه وسنوات ملئه، ولم تحصل على أي اتفاقات ولم تأخذ أي إجابات أو أي شيء بالمقابل رغم قبولها بالتفاوض مدة 9 سنوات، وإنما استغلت إثيوبيا المسار التفاوضي لانتزاع اعتراف بالسد متجاوزة المسار القانوني بل إنها الآن تصرح بأنها لن تجلس مع أحد بعد أن شارف السد على الانتهاء واقترب الملء الذي سيكون منفردا وحسب القناعات الإثيوبية وربما يكون مقدمة لسدود أخرى تنهي أمل مصر في مياه النيل.

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها