مشتبكٌ حتى الشهادة

إليك يا باسل الأعرج، يا شهيدنا المشتبك.

ها أنت قد نلت الشهادة، وها نحن نقرأ وصية صغتها بآخر قلم وأشرف ورقٍ وبعضٍ من دمك، ها نحن نجلس على مقاعدنا الوثيرة نحتسي كؤوس الحياة بينما تصعد روحك مدارج العلياء، ها أنت تركتنا نحاول -عبثا- البحث عن إجابة لأسئلة الشهادة، نتجادل حول معاني كلماتك ومقاصد رسالتك وزفراتك الأخيرة.

 رحلت وتركت “مثقفينا” يحملون أقلام الرّياء والتزلف ويلوكون كلام العته، تركتهم ينَظّرون لمئة انتفاضة وألف ثورة ومليون اشتباك، ثم يغمدون الأقلام ويستغشون الثياب، ويخوضون حروبهم بالقبعات وأعقاب السجائر.

 تركت كتبك ورواياتك، أقلامك ونظارتك السميكة، ومضيت نحو بندقيتك لتقف على حافة حلم التحرير، تحرير الإنسان من خوف الرحيل ورهبة الردى، وتحرير الأرض من دنس المحتل.

 تركت المصالحين على دم الشهداء، بالتقبيل وسلام “الجُبن”، والواقفين على الثغر المحتل ملوحين براية بيضاء، بياضَ الذّل والعهر لا بياض الطهر والعفة.

تركتهم ليتاجروا باسمك واسم الوطن، تركتهم ليذرفوا الدمع وينْظموا كلّ الرثاء حزنا على وفاتك، ثم يمضوا لإتمام التنسيق المقدس، والركوع المؤسَس، والخضوع المرصوص، ولو صدقت حروفهم لما سجنوك ولما وشوا بك طمعا في دولة بحجم مقاس القدم، أو خشية من تقريع أولياء النعم.

رحلت وتركت حبات الثرى بالشوارع المحتلة تسأل عن خطاك.. عن خطى المثقف المشتبك الحق الذي طبق كل حرف به نطق، وكل كلمة من أجلها عاش، عن راوٍ شعبي جسّد كل بطولات شهداء حدثنا عنها ذات أمس قريب، بصوت واثق ونظر ثاقب وعزم بحجم وطن حر.

اسمح لنا يا مثقفنا المشتبك بتمطيط وصيتك المختزلة، واسمح لنا بتفكيك رموز منعك حياؤيك من قولها كما هي، واسمح لنا بتحويل طلقتك السريعة إلى مشط كامل نفرغه في صدر القتلة بالفعل والقتلة بالتنسيق والقتلة بالصمت.

“إن كنتم تشاهدون دمي المتناثر فاعلموا أنني رحلت عن ذُلِّكم الدنيوي، خرقت جدار الصمت والذل وارتقيت إلى حرية السماء، ارتقيت لأعلّمكم أن رصّ الكلمات وحده لا يحرر الوطن، وأن الكتابة والشعر والنثر وصنعة الكلام جرعات مخدرة إن لم يُنتج جمعُها رمانة ناسفة، وأن الثقافة التي لا تنتهي بصاحبها -في البلد المحتل- إلى حمل البندقية ليست سوى ثرثرة، وأن غصن الزيتون لا يُحمل إلا لجَلد المحتل، وأن السلام عقد شرف بين ندين، لا خرقة نزع عز وإقرار مذلة، وأن أوسلو وكامب ديفيد وأمثلتهما صكوك عبودية ووثائق خنوع، وأن الشهادة جنة إن كان بديلها تطبيلا للخونة وتطبيعا مع القتلة.

إن الموت قدر لاحق بكل حي، فإما أن تمضي شهيدا وإما أن تحيا طريداً، ولو خُيّرتُ ألف مرة لاخترت جوار رب العزة، وصُحبة من صدَقوا العهد ووفوا بالعهد، وآمنوا أن جواز الجنة كتاب وكوفية وبندقية”.

 ستصير كلماتك يا باسلُ اختبار كرامة نُلزم كل مثقف أو مُدّعٍ باجتيازه، سنعيد طرح سؤالك والجواب:

“بدك تصير مثقف؟

لازم تكون مثقف مشتبك !

وإذا ما بدك تشتبك؟ لا منّك ولا من ثقافتك”.

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها