ما لا تعرفه عن الجنائيين في السجون المصرية (1)

الحجز داخل أقسام الشرطة له أعراف وقيم وثوابت واضحة، يعرفها جيدا من اعتاده، ومجرد العيش به لبضعة أيام يجعلك تدرك جيدا كيف تتحول العلوم السياسية إلى نموذج مصغر لعالم الاحتجاز.

أثناء اعتقالي داخل أحد أقسام الشرطة المصرية، كنت اتابعه بتعجب واستغراب وهو يسعى جاهدا لإقناع أحد المحتجزين بدفع الإتاوة المفروضة من قبل (نبطشي الحجز) على كل سكان الحجز.. ثم دار بيننا هذا الحوار:
أنا (ضاحكا بسخرية مختلطة بإعجاب): تصدق يا سيف؟ .. إنت تنفع تشتغل نصاب، مفكرتش في الموضوع ده قبل كده؟
سيف (متجهما): ليه كده بس يا بشمهندز؟! إنت عايز تزعلني منك؟!!

أنا: لا والله يا عم .. بس أنا شايفك عندك مؤهلات كويسة في الموضوع ده .. وبعدين يعني عشان تنوع نشاطك جنب تجارة المخدرات.

سيف (بجدية): لأ طبعا أنا أبيع مخدرات آه .. لكن أنصب عالناس لأ .. أنا مرضاهاش على نفسي.

أنا (متعجبا): لأ مش فاهمك بقى .. فرقت في إيه يعني يا بني؟!

سيف: أنا لما ببيع مخدرات الناس بتجيلي بكيفها وبإرادتها تديني فلوسها وتاخد حاجة قصادها، لكن النصب لأ ؟! مقدرش أخد فلوس واحد وأقهر قلبه عليها ..!!

نظرت له مشدوها لا أقوى على الكلام، فلم أكن اتخيل لحظة أن هذا العالم وهؤلاء الذين نعتبرهم في عرف المجتمع مجرمين يحملون في طياتهم فلسفة في الحياة ومبادئ يضعونها لأنفسهم لا تسمح لهم أخلاقهم بتجاوزها.

أتاح لي الاعتقال لعدة أشهر فرصة للتعرف على عالم آخر في مصر لم أكن أعلم بوجوده أصلا!

وجدت نفسي محتجزا في غرفة لا تتجاوز مساحتها العشرة أمتار مع ما يزيد عن 40 فردا قليلهم من السياسيين وأصحاب الرأي وأغلبهم من هؤلاء الذين يطلق عليهم جنائيين.

تلك الظروف اضطرتني إلى العيش بشكل كامل لأيام وأسابيع مع أشخاص كنت قبل ذلك أخشى أن أمر بجوارهم أو حتى أن أمشي في أحد الشوارع التي يوجدون بها.

ولتفهم ما أعني، فإنا أحدثك عن خليط من الناس منهم من قاموا بتشكيل عصابات سرقة بالإكراه، أو ذاك الذي يتم استئجاره لتأديب ومعاقبة بعض الناس، سواء بضربهم أو بجرحهم بأسلحة بيضاء أو ربما أسلحة حية أيضا.

عالم من البشر لم أختلط به من قبل وربما لم يخطر ببالي قبل ذلك أن أتعرف على أحدهم بل وأعيش معه في نفس المكان نتقاسم كل تفاصيل الحياة.

لكنني وجدت فيهم الكثير من التفاصيل التي أدهشتني فبعيدا عن سيف الشاب العشريني تاجر المخدرات الذي عرفت منه بعد ذلك أنه من عائلة محترمة حين أقبل وقال لي “على فكرة أنا ابن ناس ووالدتي بتحفظ الناس قرآن بس أنا اللي طلعت كده عشان لا مؤاخذة لو كنت طلعت محترم وحافظ قرآن كانت الناس هتستضعفني وتفتري عليا وكان ممكن أبقى مكانك محبوس عشان ليا رأي ولا نزلت مظاهرة عشان مش عاجبني النظام.. أو حتى بلطجي ييجي ياكل حقي ومعرفش أعمل معاه حاجة ..فمكنش ينفع أفضل محترم! “

وهناك أيضا علي الملقب بـ (أبو العربي) ذلك الرجل الأربعيني قصير القامة قوي البنية الذي احترف السرقة منذ سنين والطريف أنه كان محبوسا على ذمة سرقة ميكروباص من داخل القسم بالاشتراك مع أحد أمناء الشرطة.

لكن اللافت في أبو العربي أنه كان يكره الظلم من أعماق قلبه ويدافع عن المظلومين البسطاء حتى إنه قال لي ذات مرة “أنت عارف؟؟ أنا حرامي آه بس أنا واخد عهد على نفسي من سنين مسرقش غير الحكومة، الحكومة هي اللي تستاهل السرقة عشان هي أصلا سارقة الناس من الأول، مقدرش اسرق من حد غلبان، أنا أصلا كنت بسرق الميكروباص من القسم عشان أرجعه لصاحبه، لأنه عليه أقساط والراجل قصدني ومقدرتش أرده”.

لم تكن هذه الحكاية التي حكاها أبو العربي لي مجرد شعارات، فقد رأيته بنفسي داخل الحجز يتشاجر أكثر من مرة للدفاع عن هؤلاء المحتجزين البسطاء، الذين يتم الاستقواء عليهم من بعض البلطجية.

نعم كانت الحياة داخل الحجز ملخصا لمصطلح البقاء للأقوى أو لأكون أكثر دقة الحياة للأقوى والقوة داخل الحجز كانت إما عبارة عن بأس جسدي وسطوة أو أموال تستطيع أن تدفعها لتفتدي نفسك وإن لم تكن من هؤلاء أو أولئك فستكون المهانة مصيرك والذل طعام يومك.

الحجز داخل أقسام الشرطة له أعراف وقيم وثوابت واضحة، يعرفها جيدا من اعتاده، ومجرد العيش به لبضعة أيام يجعلك تدرك جيدا كيف تتحول العلوم السياسية وعلم الاجتماع إلى نموذج مصغر لعالم الاحتجاز، له حاكم وشعب واقتصاد ودولة وقوى خارجية، كل ذلك يحدث في ثنايا وتفاصيل الحياة في غرفة صغيرة اكتظت بسكانها، ولكنهم جميعا أصبحوا مجبرين أن يعيشوا سويا.

(يُتبع في التدوينة القادمة إن شاء الله)

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها