لماذا تهًت مع جلال أمين في لوس أنجلوس؟

إن كل شخص له القدرة على تذكر كل ما مر به من تجارب وأحداث، لكن وظيفة المخ هي حماياتنا من الضياع وسط خضم تلكم الكمية اللانهائية من المعارف.

لطالما اعتقدت أن المعرفة ما هي إلا إضافة معلومات جديدة لأجهزتنا الإدراكية أو إضافة ما نستخلصه من هذه المعلومات، فعشت فترة من العمر حالي حال هواة جمع الطوابع، يستهويني جمع كتب المعلومات العامة، لاعتقادي أني كلما جَمّعت معلومات كثر، ازددت علماً، وبمرور الوقت التبس الأمر عليّ، وبات هذا اليقين يتزعزع.

ثم زارني عشية إحدى الليالي هاجس يصر أن الزخم المعرفي ُيشتت الإدراك عوضاً عن اثرائه، لكني لم أكن لأجرؤ على الجهر بأن النهم المعرفي قد يكون له سلبياته، إلى أن قرأت كلمة للدكتور جلال أمين في كتابه “مكتوب على الجبين” حين كشف عن خاطر زاره حينما تاه في دروب الطريق السريع في “لوس أنجلوس” رغم وجود عشرات اللافتات التعريفية التي من المفترض أنها كانت لتساعده على وصول ميسر لهدفه، إلا أن إصراره على الاطلاع بدقة على كل ما هو مكتوب في كل اللافتات زاده تيهاً كما اليهود بصحراء سيناء، فكتب يؤكد :”إن المعرفة ليست إضافة معلومات جديدة، بل هي عملية استبعاد بعض المعلومات من الكمية الضخمة من المعلومات المطروحة عليك”.

فقد اتضح له أن ما ارتكبه من أخطاء لم يكن بسبب قلة التوجيهات والإشارات والمعلومات التي اتبعها أثناء سيره بل كثرتها، كما تبين له لاحقاً أن هناك لافتات يتحتم الالتفات إليها وأخرى من الضروري تجاهلها.

وكأنما كنت أبحث عمن يثبت صحة هواجسي. لذا، فكما فرحت بمقولة الدكتور أمين، بالتوازي: بِت أكثر سعادة حال اطلاعي على طرح الفيلسوف “هنري برجسون” في مناقشته للعلاقة بين الذاكرة والإدراك الحسي سيما حينما ذكر التالي:

.”إن وظيفة المخ والجهاز العصبي والحواس هي في الأساس “استبعادية، وليست إضافية”.

إن كل شخص له القدرة على تذكر كل ما مر به من تجارب وأحداث، لكن وظيفة المخ هي حماياتنا من الضياع وسط خضم تلكم الكمية اللانهائية من المعارف التي لا تعنينا في حينها باستبعاد الجزء الاكبر مما نتعرض له من مدركات وذكريات من أذهاننا مع الاحتفاظ بالجزء الصغير، المختار بعناية، والذي يكون ذا فائدة عملية لنا.

ويجب أن يمر ذلك الذهن الضخم من خلال “فلترين” صمام المخ والجهاز العصبي، فلا يسمح بالخروج من هذا الممر إلا لجزء ضئيل للغاية يمثل ذلك النوع من الوعي الذي يساعدنا على البقاء”.

المعرفة بالسالب لا بالزائد

فالطالب المتفوق ليس ذاك الذي يمتلك القدرة على مذاكرة كل دروسه كلمة، كلمة، بل هو من يتمكن من التركيز على المهم مع إسقاط ما لا طائل منه.. وكنت في السابق أجدني أثناء دراستي الأفقية (الإعلام)، كنت أتوق للتعمق المعرفي من خلال التخصص المعرفي الرأسي لفرع واحد من العلوم.

على أنني أعترف بأنه قد تبين لي أن النجاح في تحصيل معرفة أفقية أو رأسية منوط بتطبيق نظرية المعرفة بالسالب لا بالزائد.

وصايا مشرفتي البريطانية

ولن أنسى أهم وصايا مشرفتي البريطانية بالجامعة: “ستجدون يومياً ببريدكم عشرات الرسائل التي ستغريكم بفتحها.. فالانتقاء واجب .. وستدخلون المكتبة فتفاجئون بألاف الكتب.. فالاختيار صعب .. ستمشون في ردهات الجامعة لتقابلون عشرات الطلاب محملين بقصصهم وأكاذيبهم، فالتجاهل ضروري.

كما ستجدون في ورقة الامتحان أكثر من سؤال، فامنحوا الأولوية لمن له نقاط أكبر، والنجاح منوط بقدرتكم على التمييز بين الهام والهامشي مع تقدير الوقت وتحديد ما يجب استبعاده كما والالتفات للأولى. والنابغة هو من لا يحتار حين يختار.

– من كثرة عرسانها بارت”، ليس مجرد مثل شعبي، لكن يبدوا أن الإنسان حينما تتناثر على أرضه ثمار الخيارات، فإنه يزهد فيها ولا تسعفه معرفته فيتشتت ويحسب أن حاله في ديمومة الفلاح ويتناسى قانون التغير الذي وحده لا يتغير.

يجب التخلص من من “كراكيب” حياتك، “كراكيب” مكتبك لتصفى بصرك فتعين بصيرتك وتساعدك على رؤية وتفكير أعمق، و”كراكيب” مطبخك ومنزلك ليتسع المكان فلا تختنق من الضيق، وتنأى عنك الطاقات السلبية، “كراكيب” المنور، فينظف المكان وتنعدم الحشرات.

“كراكيب” خزانتك، فتمنح ما لا تحتاج من أرفف لسواك، فيدعوا لك فيستجيب الله ويقيك مصارع السوء.

“كراكيب” أناس يؤذون أكثر مما يحسنون، يستهبلون، يظلمونك بملايين ويسألونك الصفح ببوست مجاني نظير بلا ولا شيء لإعفاء نفسهم من الشعور بالذنب.

لتهدأ روحك، أقصى عنك السالب من البشر، فلا تهدر عمرك وأعصابك في تبرير، شرح وعلاج محاولات تحطيمية.

لقد خلق الله زهاء سبعة مليارات من البشر. لذا، فقد يكون متابعيك على تويتر والفيس بوك بالآلاف، وأصدقاء المدرسة وزملاء الجامعة بالمئات، كما ورفقاء العمل بالعشرات، على أن أهل بيتك قلة لكنهم يلزمونك في مرضك ويصحبونك إلى قبرك ويدعون لك بعد وصولك لدار الحق.

معرفتك للصالح ستُحتم عليك إقصاء كم مهول من المليارات السبعة لتتضح الصور أمامك، فتختار من تستأمنه كصديق. فتقربه، ومن يراك كسنيد، لتستبعده.

من تحتاجه كشريك حياة.. فتتزوجه، ومن يدخرك فقط لعثرات السلف، فتتجنبه.

من يتصل بك في مسرات التلف، فتحذره، ومن وجوده حاصل كذابين الزفة، فتشطبه.

ومن يسارع لمجاملة من قهرك/ فلتهجره، ومن ضغط عليك لتوقع على توكيل عام يظلمك.

ومن يهبك من فتات قلبه فيصدمك.

ومن مهما ظلمك فلن يتصل بك إلا إذا ذاق عقوبة رب العالمين، فصله برسالة نصية في المناسبات.

ثم من هو المُخْلَص الذي صدقاً يحبك ويكرمك، فالزمه.

-أما لو قياسك للمعرفة بالكم فعدد الرمل قلوب ونساء، فاكبش ما تشاء وستهدر العمر هباء، فتضل كد. أمين في أوتوستراد أمريكا.

 البوفيه المفتوح

-هب أنك تتناول عشاءك في بوفيه مفتوح وأمامك وفرة من أطايب الطعام المُنَوع والشهي، ألن تعتقد أن الأمر محمدة؟

ألن تود لو طال بك الأمد بإزاء هذه الموائد الممتدة بأصناف شتى مبهرة؟

ألن تسعى لأن تستفيد بأضعاف ما ستدفع؟

لكن الشاهد أنك لو لم تجيد انتقاء ما يناسبك، إجادتك لاستبعاد ما يضر بصحتك، لكان الأمر مهدداً لصحتك، وثق أنك ستخرج من هذا البوفيه ناقما كونك لم تنل ما كنت تأمل في التهامه كما ستحنق على “ولاد الذين” انقضوا على الاستكوزا والقريدس”

ما يعني أن قدرة البوفيه المفتوح على إشباعك غدارة .. بيد أنك لو عدت لدارك خلال يوم عمل عادي وأنت عليم أن الغذاء بالبيت هو البازلاء جارة الجزر بضيافة الأرز ومقدار من الضأن، فإنك ستُهييء نفسك لهذا القدر من الغموس. وبالتالي سيتحقق لك الإشباع الفوري كون المتوقع متاح كما أن المتاح متوقع، رُغم علمك بأن في العالم أضعاف تلك الأصناف، لكن الإشباع تحقق لك بإقصائك الفكري لما لا تنتظره أو تتوقعه.

 التسوق من الزمالك

كنت في صباي أذهب للتسوق مع عائلتي في حي الزمالك لشراء حذاء وكلما كان المعروض في “الفترينة” كثيرا، كلما التبس عليّ الأمر سيما من ضغط البائع الذي يسعى للتأكيد اللحوح أن منتجه هو الأفضل حتى لو الحذاء ضيق لكن سيتسع بالمشي، وإن ضحى بآلام أقدامي التي لا يأبه لها، ناهيكم عن ضغوطات والدتي التي توافق البائع -فقط – لتستعجلني بالانتقاء سريعاً قبل نفاد صبر أبي ما سيجعل الفرصة تفوتني ولربما “تتدبس” هي في ثمن الحذاء، هذا عدا ضغوط الوالد الذي يحثني على اختيار الأرخص.

وخلاصة تلك التجارب تُعلمنا أن على أجهزتنا الادراكية أن تعينُنا في لحيظة من الزمن لإدراك والتمييز بين أيّ من الآراء المعرفية التي علينا استبعادها، ولو صدرت من المقربين، وأي منها علينا أن نقصيها أو ندنيها دون أن تلتبس علينا كي لا نُقمع نحن على لبس أحذية ضيقة تُقَطِع أقدامنا في دروب الحياة أو لبس خيارات أسوأ كزوج، كدراسة أو وظيفة أو سواهم على مدى العمر.

صدقاً، إن شرعت في اشتباك قوي في خضم الحياة، فلتتسلح بمعرفة حرة من تأثيرات الغير ولو مقربين فتضيف المفيد وتهمش المشوش.

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها