لستُ أبي

أحد أفراد فرق التعقيم يرش حائط عليه صورة الرئيس السيسي بمحطة الشهداء لمترو الأنفاق

تركتُ مصر وانتقلت إلى الولايات المتحدة في الخامسة والعشرين من عمري بعد أن أيقنت أن المحروسة أصبحت سجنا عسكريا كبيرا “نعيش فيه ويعيش فينا” ونفق لا بصيص للأمل في نهايته.

منذ أن سافرت وحتى كتابة هذه الكلمات لم تنقطع علاقتي بعائلتي، فلطالما تحدثت مع أبي وأمي، تبادلنا الأخبار وتجاذبنا أطراف الحديث كل أسبوع تقريباً.

بُعَيد سفري تولى عبد الفتاح السيسي الحكم، ومنذ ذلك الحين كثرت حواراتي معهما عن الأمور السياسية في مصر. وفي كل مرة يذهب بنا الحوار إلى القضايا السياسية، تتفق أمي معي بينما يختلف أبي اختلافاً قاطعاً مصحوباً بغضب جم وصوت جهوري وثقة بالغة في الرأي.

يكمن جوهر الخلاف بيني وبين أبي في الفكر والفلسفة السياسية وتحليلنا للوضع في مصر. فأنا ساخط وناقد ومعترض على سياسات الحكومة والرئيس الفرعوني عبد الفتاح السيسي الذي سلب من الناس حريتهم وباع جزءا من أرضهم لعائلة بترولية سلطوية فاسدة من أجل بعض فتات موائدهم وفرض نفسه فرعوناً مدى الحياة. أما أبي العزيز – والجيل الذي ينتمي إليه – فيشعر بالامتنان للرئيس الذي خلصه من “الحكم الإسلامي الأصولي” ووفر له الأمن والأمان بعد سنة من الرعب والقلق وعدم الاستقرار. أبي وجيله يعتقدون أن توافر المأوى وقوت اليوم أهم بكثير من “تفاهات” حرية الرأي “وترف” الديمقراطية.

وهنا لب المشكلة: حرية الرأي في نظر أبي ليست أولوية، وجيل أبي يؤمن بأن المواطن المصري عليه أن يختار بين القوت والكرامة. فلسفة هذا الجيل تزعم أن المصريين يعيشون في وضع يلزمهم بالاختيار بين الحرية أو الأمن والاستقرار. فيرى أن المصري الآن يجب أن ينسى الحرية إذا أراد قوت يومه وإذا أراد أن يأمن على حياته.

أما أنا وجيلي فلا نحترم السلطة ولا نقدس حاكما، ولا نعطي عقولنا ولا قلوبنا لحكومة أو سياسي. في عالم القانون، المتهم بريء حتى تثبت إدانته وإنما في عالمنا فالسياسي والمسؤول الحكومي مدان حتى تثبت براءته. في المقابل، اتسم جيل أبي بالرضوخ والخنوع والخضوع وتقبيل الأيادي وحمل المباخر، ولولاهم لما استطاع طاغية مثل مبارك أن يستمر في السلطة لثلاثة عقود.

جيل أبي سجين أفكار بالية، جيل سجين بيته وخوفه وسجين الماضي البائس. جيل لا يتجرأ على طرح سؤال حتى بينه وبين نفسه. جيل يعاني من غطرسة كاذبة – تارة يتباهى بحكومته ووطنه ويدعى استثنائية مصر والمصريين وتارة يشتكي من هموم الحياة اليومية التي تلاشت منذ زمن في مجتمعات أخرى.

جيل أبي يصنع الفرعون، ويركع لضابط الشرطة، ويتوسل للموظف الحكومي. أقصى طموح هذا الجيل هو المأكل والملبس والمسكن، أما جيلي فلا يقبل مأكل بدون كرامة ولا ملبس بدون عزة ولا مسكن بدون حرية. عند أبي الحرية ترف، أما عندي فالحرية مثل الماء والهواء. أبلغ ما يعبر عن شعور جيلي هو قول السياسي الأمريكي في القرن الثامن عشر “إما الحرية أو الموت!” إيماننا الراسخ هو أن الموت من أجل الحرية أفضل من العيش بدونها. جيل أبي منبطح الرؤوس منكسر النفوس أما نحن جيل الهامات المرفوعة. هم جيل “المشي بجانب الحائط” ونحن جيل السير وسط الطريق.

جيل أبي والأجيال التي سبقته صنعت فرعون جمال عبد الناصر الذي عذب المعارضين والسادات الذي سجنهم ومبارك الذي استخدم البلد ومواردها كعزبة له ولعائلته من اللصوص. ثم أتى السيسي الذي تفرغ لبناء القصور وتعيين أبنائه في مناصب رفيعة في الحكومة والزج بأبناء المصريين في السجون التي دفعوا ثمنها من ضرائبهم.

لا يزال جيل أبي يؤمن أن الحاكم يمكن أن يظل في الحكم للأبد، ولم يتعلم الدرس من التاريخ أنه لا مفر من الفساد والطغيان عند غياب تداول السلطة ومساءلة الحاكم. جيل أبي لا يقرأ ولا يكتب ولا يستقي معلوماته إلا من حوارات المقاهي والبرامج التليفزيونية الرديئة ومن الجهلاء من مقدمي تلك البرامج. فهو جيل لم يتعلم أهمية المصدر ولا التدقيق والتحقيق والتمحيص.

حتى يومنا هذا، لا يدرك جيل أبي الفرق بين الدولة والوطن، بين الشعب والحكومة، بين الانتماء للناس والانتماء للحاكم، وبين مصلحة النظام والمصلحة العامة. يظل رجال هذا الجيل يفكرون في إدارة هذا الوطن كما يفكرون في إدارة بيوتهم وأسرهم التي يمارسون عليها القمع وعُقَد النقص والفشل والديكتاتورية التي يمارسها عليه النظام. فيعتقدون أن المواطن لا يجب أن ينتقد وطنه في الخارج كما لا يجب على الزوجة أن تشتكي من زوجها أمام الآخرين، وأن على المواطن أن يكون شاكر على ما تقدمه له الحكومة من خدمات مثلما يتوجب على الزوجة العرفان بجميل زوجها عندما يمن عليها بالمال.

فعندما انتقد الفنان خالد أبو النجا سياسة النظام المصري خلال مناسبة عربية خارج مصر، هاجمه الإعلامي وائل الإبراشي وآخذه على انتقاده “لبلده” خارج حدودها. وعندما يقدم مخرج مثل خالد يوسف عملاً سينمائياً يناقش فيه علل المجتمع يتهمه فارغو الرأس بتشويه صورة مصر.

لا يفهم جيل أبي أن الأوطان لا تتقدم إلا بالاختلاف والنقد وإبراز العيوب والضغط المستمر على السلطة. لا يعي هذا الجيل أن الشعب هو السيد وأن الحاكم وحكومته ما هم إلا خدم يتقاضون أجراً لكل ما يفعلونه وأن شغلهم الشاغل يجب أن يكون إرضاء المواطن.   

نحن قررنا ألا نعيش في جلباب آبائنا الذين أرادوا أن يعيشوا حياتهم مرتين، مرة فشلوا فيها ومرة فينا لتعويض ما فشلوا فيه. جيلي ليس جيل أبي. أنا لست جيل أبي. أنا لست أبي.

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها