كيف تذبح دولة؟!

ما يقوم به النظام الإنقلابي الحالي لا يشبه أي نظام سبقه مهما كان فاسداً أو منبطحاً، بل يدفع بكافة مكونات الدولة على طريق الإنهيار والتدمير الذاتي وتذويب مؤسسات الدولة وشل قدرتها عب

بدايةً لو نظرنا إلى تعريف “السياسة ومفهوم الدولة” اصطلاحاً وببساطة ودون الدخول في التعريفات الأكاديمية المعقدة، بل من خلال وجهة النظر المتعارف عليها عند السواد الأعظم من الشعب العربي، فهو يعني رعاية شؤون الدولة داخلياً وخارجياً ضمن أطر محددة، حسب احتياجات ومصالح كل دولة وبما يضمن استقرارها والحفاظ على الممتلكات والأرواح وتوفير متطلبات الحياة للمواطنين في ظل نظام يتمتع الأفراد الواقعين تحت حكمه بالحرية والمساواة والعيش الكريم، والذي تضمن تحقيق شروطه السلطات الثلاث للدولة “تشريعية وقضائية وتنفيذية” وبحماية السلطة التي تحتكر وسائل الإكراه الشرعية “الجيش والشرطة“.
الهياكل الرئيسية لأي دولة تنقسم إلى سياسية متمثلةً في منظومة الحكم بكل أركانه وأدواته من هيئات ووزارات سيادية وخدمية، واجتماعية متمثلةً في الكيانات والتكتلات والقوانين والسلوكيات التي تساعد على بقاء المجتمع مترابطاً فيما يشبه العائلة الكبيرة المتكافلة فيما بينها ويضمن الاستقرار المجتمعي، وهو ما يترتب عليه نضوج الحالة السياسية وازدهار المنظومة الاقتصادية وكفاءة منظومتي العدالة والحماية وإعلاء وترسيخ المنظومة الثقافية، واقتصادية متمثلة في القطاعات والكيانات الخاصة بالاقتصاد من زراعة وصناعة وتجارة وسياحة وما شابه ذلك، وثقافية متمثلةً في مختلف درجات التعليم والتقدم التكنولوجي والإنتاج الفكري والمادي والعلم والأدب والفن، إضافةً إلى منظومة العدالة والحماية المكونة من القضاء والشرطة والجيش، وهي الضامن لاستقرار و استمرارية الهياكل السابق ذكرها والحفاظ على كيان الدولة داخلياً وخارجياً.

التعريفات السابقة تنطبق على الدول ذات الظروف العادية والتي يعمل حكامها على ضمان تحقيقها لمواطني دولهم، لكن لو حاولنا مقارنتها بما يجري على الساحة المصرية لوجدنا النخبة العسكرية الحاكمة فيها تقوم بتنفيذ العكس تماماً بانتهاجها طريقة هدم الدولة و تحويلها إلى مجرد كيان يشبه الدولة في ظاهره ولكنه يهدم تدريجياً كل مكوناته على أرض الواقع.
سياسياً قام العسكر بالسيطرة تدريجياً على كافة مؤسسات الدولة وسلطاتها الثلاث “تشريعية وتنفيذية وقضائية” تزامناً مع إخضاع كامل وشبه مطلق للسلطة الرابعة “الإعلام”، وبعد الانقضاض على الثورة ونجاح الانقلاب العسكري الذي عصف بكل مكتسباتها وقضى على الحياة السياسية بعد اختفاء مكوناتها “هيئات منتخبة وأحزاب وأفراد وجماعات” مع الإبقاء على بعض الأحزاب وتفريغها من مضمونها لتكمل الشكل الديكوري للدولة وبعض الشخصيات السياسية من التيارات المختلفة لتقوم بتمثيل دور المعارضة، وأصبح رأس الدولة “قائد الانقلاب” عبد الفتاح السيسي يجمعها كاملةً تحت سلطته وتصرفه ومن يحاول التغريد خارج السرب ولو بتصرف بسيط يتم إقصاؤه والتنكيل به على الفور، ووصل الأمر بغالبية المصريين لحالة تشبه الإلحاد السياسي المختلطة مع الشعور باليأس من أي تغيير في الوضع القائم.
اجتماعياً وصلت مصر لحالة من الانقسام المجتمعي و الطبقي تنذر بانفجار وشيك فقد تضاءلت القواسم المشتركة بين طبقات الشعب المختلفة بعد تمايزها واختلافها نتيجة لسياسات التمييز من قِبل النخبة العسكرية، فهناك طبقة تتمتع بكل سبل الراحة والحياة وأخرى لا تكاد تملك أدناها ويكفي نظرة بسيطة لما يطلق عليه الطبقة المتوسطة “رمانة الميزان وصمام الأمان لأي مجتمع” فقد قاربت على الاختفاء، بعد التحاق قمتها “البرجوازيون” بركب السلطة وقيامهم بدور المكمل لها وانسحاق الباقين وانضمامهم لطبقة محدودي الدخل والفقراء بعد فقدهم للقدرة على التوفيق بين الدخل والإنفاق والارتفاع المستمر في الأسعار والذي لا يتناسب مع الأجور وقيمة العملة المحلية أمام الدولار و أقرانه، إضافة إلى تعظيم وإبراز الخلافات الدينية والمذهبية والعرقية. ومن أمثلة ذلك توثيق علاقة النظام بالكنيسة وإظهارها كشريك سياسي على حساب الأغلبية المسلمة وفي نفس الوقت استغلال الحوادث المتكررة ضد الكنائس والأقلية المسيحية لتخويفهم وسلخهم عن باقي مكونات المجتمع، وهو ما يسهم في استمرارية تحالفهم والتصاقهم بالعسكر بداعي الحماية وفي نفس الوقت يوغر صدور الغالبية من المسلمين لافتقادهم تلك الحماية وتعالي الخطاب المعادي والمناهض للكنيسة ورعاياها، أيضاً التفرقة والاختلاف في إجراءات التعامل مع مواطني الإقليم بعد تحول مواطني سيناء والنوبة إلى ما يشبه: مواطنون من الدرجة الثانية بمضاعفة التحيز ضدهم بدرجة أكبر من الباقين المضطهدين أصلاً السيء و الأسوأ“.
اقتصادياً سيطرت القوات المسلحة على معظم النشاط الاقتصادي بطريق مباشر وغير مباشر وهو ما أدى لزيادة التضخم وعجز الموازنة وارتفاع الدين العام داخلياً و خارجياً، وهو ما نتج عنه الانسحاب التدريجي للقطاع الخاص وسحق الشركات المتوسطة والصغيرة لانعدام فرصة المنافسة مع الشركات التابعة للجيش المعفاة من الضرائب والجمارك والمتمتعة بالحصول على الأراضي والمواد الخام والطاقة بسعر مخفض والعمالة شبه المجانية، وشركات رجال الأعمال المرتبطين بالمنظومة العسكرية والتصفية المستمرة لشركات ومصانع القطاع العام بعد تراجع إنتاجها وجودته وتسريح العاملين فيها طوعياً أو إجبارهم على الرحيل عبر تخفيض الأجور وتأخيرها وهدم منظومة الضمان عبر انتزاع حقوقهم من التأمين الصحي والاجتماعي وخلافه، مما يسهم في انضمام الطبقة العاملة إلى طابور الناقمين على مؤسسات الدولة، التراجع المستمر للإنتاج الزراعي والحيواني بعد انخفاض وتقلص الموارد المائية نتيجة لسد النهضة وأساليب الزراعة التقليدية وارتفاع اسعار المستلزمات من بذور وأسمدة وأعلاف وخلافه وشبه انهيار للمحاصيل النقدية بعد انخفاض جودتها وتعقيد الدولة لعملية شرائها وتسويقها كونها المحتكر لها، والتضاؤل المستمر لقدوم المستثمر الخارجي لانعدام فرص المنافسة والأوضاع الأمنية تزامناً مع فرض داعمي السلطة الخليجيين لمستثمرين بعينهم تتعاقد معهم الدولة بطريقة مباشرة والتدهور المستمر لقطاع السياحة وغيره، إضافةً للأثار المترتبة على شروط صندوق النقد الدولي.
ثقافياً التراجع المستمر لمنظومة التعليم نظراً لاتباع وسائل تقليدية للتعليم لا تتواكب مع النظام العالمي ولا تتمتع بالمقومات اللازمة والمطلوبة لسوق العمل داخلياً وخارجياً، وهو ما نتج عنه تخريج مئات آلاف الخريجين أشباه المتعلمين يصطدمون بواقع وظيفي مختلف تماماً عما درسوه، وحتى النظام التعليمي نفسه أصبح أحد أسباب الانقسام المجتمعي كمسمى “كليات القمة” وحصر بعض الكليات “العسكرية كمثال” في طبقات بعينها دون الأخرى، وهذا بدوره أدى إلى تشوه ورداءة المردود التكنولوجي والمادي والأدبي والفكري لروافد الثقافة والعلم المختلفة من آداب وفنون وعلوم وخلافه.
انحياز منظومتي العدالة والحماية “القضاء والجيش والشرطة” للطبقة العسكرية الحاكمة والملتحقين بها من سياسيين ورجال أعمال وإعلاميين وفنانين وما شابه، بحيث أصبحت ذات وجهين مختلفين تماماً، فبينما تمثل الأمن والأمان والدرع الحامي لتلك الطبقة و امتيازاتها ومصالحها، تمثل الخوف والرعب والسوط والسيف المسلط على رقاب باقي طبقات الشعب المطالبة بالخضوع التام.
كل ما سبق يؤدي لنتيجة محتمة وهي زيادة الحنق الشعبي على تلك المؤسسات والهياكل والتشكيك المستمر فيها والنقمة عليها وبالتبعية تنخفض كفاءتها وتنكفئ على نفسها مكتفيةً بمزيد من الإجراءات الرامية لتمكين وحماية النظام الحاكم وأتباعه والمنتسبين إليها وهو ما سيؤدي حتماً لانهيارها لاحقاً.
الخلاصة
ما يقوم به النظام الانقلابي الحالي لا يشبه أي نظام سبقه مهما كان فاسداً أو منبطحاً، بل يدفع بكافة مكونات الدولة على طريق الانهيار والتدمير الذاتي وتذويب مؤسسات الدولة وشل قدرتها عبر جعلها جميعاً مؤسسات تابعة للنظام العسكري الذي أصبح هو والدولة كيان واحد لا يمكن التمييز بينهما، وجعل بقاء الدولة رهيناً بالإملاءات الخارجية وتحويلها لقنبلة موقوتة تزداد قابليتها للانفجار شيئاً فشيئاً وكيان عاجز لا يملك من أمره شيئاً ورهينةً لرغبات كفلائه الخارجيين صادعاً بما يؤمر به، منفذاً لأجندتهم داخلياً وتابعاً لسياستهم خارجياً.

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها