كرة القدم والتوازن النفسي للمجتمع

يعتبر الفيلسوف الألماني المثير للجدل جورج فريدريك هيغل أن الاعتراف recognition هو شعور الانسان بوجوده ككائن حر ومستقل وذي سيادة، من قبل إنسان آخر حر ومستقل! وأنه عمل على تحقيقه في الماضي بالقوة، ما نتج عنه ما يسميه هيغل جدلية السيد والعبد. إلا أن التطورات الهائلة التي حدثت والقوانين الصارمة التي سُنّت لحماية الإنسان من الآخر وتنظيم المجتمعات، لعبت دوراً في طريقة تحقيق الاعتراف! وأهم طريقة اليوم هي الرياضة وكرة القدم بشكل خاص.

تعتبر لعبة كرة القدم من العوامل الفعّالة في تحقيق رغبة الإنسان في التعالي والاستقلال والحرية، وتحقيق الاعتراف به ككائن مستقل ومتميز عن الآخرين دون الخروج على القانون، أو الدخول في مهاترات قد لا تخدم المنتصر ولا المهزوم، ويمكن تحقيق ذلك على مدار السنة. أي أن كرة القدم مواجهة، بل حرب حقيقية تحقق اعتراف الآخر بالآخر بلا دماء، إلا ما ندر، وهنا الاعتراف جمعي وليس فرديًا، سواء على المستوى المحلي أو القاري أو الدولي! وكرة القدم ممتعة لعشاقها، ولكن الأهم ليس المتعة وإنما تحقيق الذات بالفوز على المنافس!

وقبل كل موسم تبدأ الأندية استعداداتها بالتعاقد مع لاعبين جدد، يُعتقد أنهم سيصنعون الفارق مع أنديتهم، وتدفع ملايين وعشرات الملايين وربما مئات الملايين من الدولارات ثمنًا لخدمات بعض اللاعبين. وهؤلاء اللاعبين بمثابة «الأسلحة» النوعية الجديدة الكفيلة بتحقيق البطولات واسعاد الجماهير التي -في الحقيقة- هي من يدفع ثمن هؤلاء اللاعبين. وتستكمل الاستعدادات بإقامة المعسكرات الداخلية والخارجية، ولعب مباريات ودية وهي (المناورات العسكرية) بـ «الذخيرة الحية». والهدف خلق الانسجام والتفاهم بين خطوط الفريق الدفاعية والدعم اللوجستي والقوات المهاجمة – أفرع «القوات المسلحة» – لخلق فريق متناغم لتحقيق درع الدوري والكأس، التي تهم الجماهير أكثر من اللاعبين أنفسهم، والسبب هو نزع الاعتراف – التميز والسيادة – من الآخرين! أما المباريات فلها طقوس ومقدمات وتبعات كما المعارك الحربية!

فقبل كل مباراة تبدأ الحرب الإعلامية، وخصوصًا إذا كان الناديان المتباريان من الأندية الجماهيرية. وهي حرب نفسية للتأثير على نفسيات الفريق المقابل، وللخداع تلجأ بعض الفرق إلى إغلاق تدريباتها كي لا تنقل الصحافة الخطة التي سيلعب بها الفريق. وقبيل المباراة بساعات، تنتشر أعداد كبيرة من أفراد الشرطة في أرجاء الملعب لحفظ النظام والأمن ولمنع اقتتال جمهوري الفريقين. وتزحف الجماهير إلى ملعب المباراة مشحونة بأمل الفوز والخوف من الهزيمة! وتجلس جماهير كل نادٍ في أماكن معينة منفصلة عن جماهير النادي الآخر منعًا للاحتكاك. مرة أخرى، إذاً، جوهر كرة القدم نفسي “سيكولوجي” وليس للمتعة إلا لمن ليس لديه اهتمام بالنتيجة! فلم نر الشرطة تحرس بوابات المسارح والسينمات وهي التي تقدم “المتعة” للناس!

وما أن تنطلق المباراة حتى تبدأ جماهير كل فريق بتشجيع فريقها بقيادة روابط جماهيرية مدربة، وترديد أهازيج معينة لتشجيع الفريق على اللعب بجدية و«القتال برجولة» في الملعب – كما في الحروب القديمة – لتحقيق الانتصار على «العدو» ويسمى «الخصم» تلطيفـًا! إنها الحرب فحسب! فالمستوى لا يهم بقدر ما يهم تحقيق النصر! وإن كانت المباراة على نهائي بطولة أو مهمة في هذا الطريق، فإن حالات الإغماء والذبحات الصدرية واردة جدًا لمشجعي الفريقين، إما بسبب الخسارة أو الفوز غير المتوقع! ومنهم من لا يذهب في اليوم التالي إلى عمله أو مدرسته أو جامعته للحزن الذي يعتريه أو خجلاً من الخسارة، فخسارة فريقه خسارة له شخصيًا بكل الاعتبارات!

ولكن هناك عزاء جميل يصبّر الخاسرين وهو أن هناك مباراة أخرى، أو مباريات في المسابقة نفسها أو مسابقات مختلفة، بعد أيام أو أسابيع أو شهور قليلة أو حتى العام القادم. والأمل في التعويض ورد الاعتبار قائم بلا شك. ولعل هذا ما يمنع الاقتتال الحقيقي! لا يمكن أن يكون هذا كله من أجل المتعة! وإن كانت من بين الأهداف لبعض المشجعين الذين يشاهدون المباريات للتسلية، وإنما لهدف أكبر وأسمى وهو تحقيق التفوق على الآخرين أو اعتراف هيغل كما يُسمى فلسفيًا ونفسيًا، وهو خصلة متأصلة في طبيعة البشر! وفي حالة المنتخبات الوطنية، فإن كرة القدم تمثل الشوفينية chauvinism، أي المغالاة في الوطنية، الجامعة لكل مشجعي الأندية! فالفوز والتأهل للمسابقات القارية، كأس آسيا وكأس الأمم الأفريقية أمثلة، أو كأس العالم، يحقق الاعتراف لشعب الدولة بأكمله، ويعتبر مسألة «حياة أو موت» عند بعض الأمم غربيها وشرقيها ووسطها!

كل ما ذكرناه آنفًا يدل على أن كرة القدم ليست للمتعة، إلا بنسبة يسيرة، وإنما لتحقيق هدف «أسمى»، وهو تحقيق التميز والشعور بالسيادة! أي أنها حرب حقيقية بلا مدافع ورشاشات؛ فوجود الشرطة وربما الجيش في بعض الأحيان بشكل مكثف في الملعب يدل على أنها ليست مجرد لعبة للمتعة. الحضور الجماهيري الرهيب في الملعب وخارجه حول شاشات التلفاز- الكلاسيكو الأخير بين الريال والبرشا شاهده 650 مليون انسان عبر شاشات التلفزيون- يدل على الأهمية النفسية التي تمثلها كرة القدم للجماهير. كما أن العصبية في التشجيع وحتى حالات الطلاق التي تحصل بين الزوجين للاختلاف حول نتيجة مباراة، ومن يستحق الفوز لدليل على تجسيد كرة القدم لاعتراف هيغل! وما انعدام الأخلاق عند اللاعبين عند التفكير بالنصر، كما فعل الإيطالي ماتيرازي الذي استفز الفرنسي زين الدين زيدان في نهائي كأس العالم في ألمانيا عام 2006، ما أدى إلى «النطحة» الشهيرة والتي أخرجت زيدان بالكارت الأحمر ومهدت الطريق لفوز إيطاليا بكأس العالم، إلا دليل آخر على أن كرة القدم حرب من أجل الحصول على الاعتراف بالسيادة والتميزعن الآخرين! ولننظر إلى كثافة البرامج الرياضية والمجالس الخاصة بكرة القدم و«الخناقات» أو «الهوشات» التي تحصل بين المحللين، لندرك الأهمية البالغة التي تمثلها كرة القدم للتوازن النفسي للمجتمعات الإنسانية، حيث تمتص الغضب الكامن في النفوس للانتقام والتعدي لإثبات الوجود بتوفر الفرص لتحقيق الاعتراف والاستقلال الذاتي في كرة القدم بلا انقطاع!

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها