في سلسلة تغريدات ، هنأ الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” مرشح المعارضة “أكرم إمام أوغلو” على فوزه برئاسة بلدية إسطنبول وفق النتائج الأولية في انتخابات الإعادة.
وبمؤتمر صحفي عُقد في ذات اليوم الأحد 23 يونيو، هنأ المرشح لرئاسة بلدية إسطنبول عن حزب “العدالة والتنمية” الحاكم، “بن علي يلدريم”، منافسه المنتصر، مرشح حزب الشعب الجمهوري.
لم يكتف يلدريم بذلك، بل أكد على حرصه على مساعدة “أوغلو” في جميع الأعمال التي سيقوم بها لصالح إسطنبول”.
بينما كان أول بيان من “أوغلو” عقب إعلان فوزه، يحمل طلبا لعقد لقاء عاجل مع أردوغان، حيث قال مخاطبا الأخير: “سيدي الرئيس، أنا مستعد للعمل معك في تنسيق تام، وأطلب من هنا مقابلتك في أقرب وقت”.
وعلى الرغم من أن هزيمة يلدريم، تعتبر هزيمة للحزب الحاكم بقيادة أردوغان، والذي كان من أشهر مقولاته: مَن يفز بإسطنبول يفز بتركيا، بل وكانت رئاسة الأخير لبلدية إسطنبول، هي أول خطوة في طريقه نحو زعامة البلاد، حيث تولى رئاسة البلدية عام 1994، وأسس حزب الحرية والعدالة عام 2001، ثم أصبح رئيسا للوزراء بين عامي 2003 و2014، وانتهى به الأمر رئيسا للجمهورية.
إلا أن ما حدث كان يحمل في طياته انتصارا هائلا للديمقراطية تحت عباءة الحزب الذي يشن أعداؤه عليه حملة تشويه كبرى، تقتصر على أمر وحيد، ألا وهو: محاولة إلباس “أردوغان” ثوب الديكتاتورية!
فالحزب الذي يتولى الحكم في البلاد سمح لمعارضيه بالفوز برئاسة عاصمة تركيا التاريخية، وأهم مدينة بها، ولم يسعَ لتزوير الانتخابات، ولم يُضيق على معارضيه حركتهم ووصولهم للناخبين واقناعهم بالتصويت لصالحهم، وقبلها، كانت العاصمة (أنقرة) أيضا على موعد مع فوز مرشح حزب الشعب الجمهوري “منصور ياواش” برئاسة بلديتها، في مواجهة مرشح الحزب الحاكم.
وفي اعتقادي كان فوز “أكرم إمام أوغلو” على رئيس الوزراء والبرلمان السابق “بن علي يلدريم” يعود لأسباب، أهمها:
أولا – التصويت العقابي من بعض الناخبين للحزب الحاكم، على خلفية الأزمة الاقتصادية، وانخفاض العملة التركية بمقدار الثلث على مدار العام الماضي.
ثانيا – الأداء الجيد لـ “إمام أوغلو” في إدارة حي “بيليكدوزو” أحد أحياء اسطنبول الهامة، خلال الأعوام الخمسة الماضية.
وثالثا – الصورة التي ظهر بها “أوغلو” لأول مرة في تاريخ تركيا، حيث تركيبة فريدة، من مرشح لحزب علماني ينافس التيارات الإسلامية، لكن لا يعادي الدين، بل ويحرص على اظهار نفسه في صورة المتدين المحافظ الذي يصلي ويصوم، ووالدته محجبة، وكذلك عدد كبير من النساء المشاركات في حملته الانتخابية، فقدم نفسه كبديل محافظ لأحزاب إسلامية حكمت إسطنبول على مدار عقدين من الزمان، منذ عام 1994.
رابعا – وهو الأهم، يعود لتحالف حزب العدالة والتنمية مع حزب الحركة القومية التركي المتشدد، فرغم تفادي حزب أردوغان، استفزاز الناخبين الأكراد خلال حملة “يلدريم” الانتخابية، لكن هذا التحالف كان كفيلاً بخسارة الصوت الكردي لصالح “إمام أغلو”، فأصوات الأكراد ذهبت للمعارضة في إسطنبول وأنقرة وغيرها من المدن الكبرى، التي لم يقدم فيها حزب الشعوب الديمقراطي (الموالي للأكراد) أي منافسين لمواجهة الحزب الحاكم.
يمثل الأكراد ما نسبته 15% إلى 20% من إجمالي السكان في تركيا البالغ عددهم 76 مليونا ، وهم أكبر أقلية عرقية بها
خامسا – الشباب يكسب دائما، فـ “أوغلو” البالغ من العمر 49 عاما، بشعره الأسود الداكن، والذي غالبا ما يحرص على مخاطبة الجماهير، في مقاطع مصورة من داخل مكتبته، ويكتفي فيها بإظهار أحد الكتب خلفه، تعلوها اسم وصورة “كمال اتاتورك”، مبتعدا بذلك عن الدعاية القديمة والتقليدية، من ملصقات ضخمة ، وصور بمقاسات كبيرة لمؤسس تركيا العلمانية، كان الأقرب لنفوس الشباب من “يلدريم” البالغ من العمر 63 عاما، والذي يغزو الشيب رأسه بالكامل، وغالبا ما يدعوه البعض برجل أردوغان المخلص
فالمنافسة بين الرجلين، دفعت البعض من غير المتعصبين للثنائية الشهيرة “التدين ضد العلمانية” أن يعطي صوته بأريحية لـ”أوغلو” ، حيث استطاع الأخير بذكاء شديد، تذويب الجليد بين قطبي تلك الثنائية من خلال الظهور بمظهر المتدين، المحافظ على القيم الإسلامية، ذي الخطاب المتصالح مع كافة التيارات، والذي يتمتع أيضا بروح الشباب ،ويرفع راية التغيير>
بالطبع، تبدو هزيمة مرشح الحزب الحاكم، في أهم مدن وبلديات تركيا، جرس انذار، ينبه لضرورة إعداد الحزب لنماذج قيادية تُقنع الناخب التركي، بخلافة أردوغان، إذا أرادوا الاستمرار.
لكن الأهم: أن “أوغلو” لم يكن هو المنتصر الوحيد في هذه الانتخابات، بل انتصر معه النموذج الذي يحاول تقديمه “أردوغان” في منطقة تئن من الاستبداد والظلم وحكم الفرد، نموذج الدولة الديمقراطية القوية، التي تحترم الإنسانية، وتفتخر بهويتها الإسلامية، تتطلع لمستقبل زاهر، ولا تنفصل عن ماضيها المجيد، نموذج يفضح عوار كثير من الديكتاتوريات العربية، فاكتسب عداوتهم جميعا.
وعلى الرغم من السعادة الغامرة والاحتفالات التي ضجَّ بها إعلام دول الحلف العربي المعادي لتركيا، تفوق ربما احتفالات إعلام المعارضة التركية ذاتها، إلا أن نتائج الانتخابات، مثلت كذلك هزيمة للدعاية التي تقدمها تلك الأنظمة في مواجهة أردوغان، والتي تركز دائما على وصمه بالديكتاتور، هزيمة من العيار الثقيل، فنتائج انتخابات الإعادة، هي تأكيد على ديمقراطية النظام الحاكم التركي، الذي يحترم مبدأ التعددية، ويسمح لمعارضيه بمنافسة شريفة، تمكنهم من اقتناص الفوز، من خلال انتخابات عادلة ونزيهة، لا تتمتع بها كافة الدول التي تشن حربا غير أخلاقية عليه، أسلحتهم فيها الكذب والتضليل.
كما مثلت النتيجة أيضا انتصارا للشعب التركي، الذي استطاع فرض رأيه، على نظام حاكم (وُصِفَ بأنه الأقوى في تاريخ تركيا الحديث بعد مؤسسها اتاتورك).
يمكننا القول، بأن انتخابات بلدية اسطنبول، خَسِرَ فيها “يلدريم”، لكن انتصرت تركيا، وانتصرت المعارضة، ولم يُهزم “أردوغان”.
المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها