علي زلط يكتب : حاجتنا إلى كربلاء جماعية

“اصبري يا أختي، مكملين إن شاء الله”، و هل تعني دموعي أنني غير صابرة؟ تتساءل الفتاة في دهشة،و هي لم تكد تستفق من صدمة أن شريك حياتها طلقها من وراء حجاب السجن قبل ثوان.يتبع

“أنا هطلقك علشان تاخدي معاش أبوكي” ، قالها الشاب الثلاثيني من وراء السلك الحاجز بين القلوب قبل أن يحول بين المرءِ و زوجه ، كان الشاويشيه الغلاظ العتاه يدفعونه بعيدا عن صراخ زوجة خضب العرق و الدموع وجهها المترَّبِ من عناء السفر و كآبة منظر العساكر و مقرات الاحتجاز.

عامان مرَّا على حبس الرجل و السَّند و العائل و الحبيب، ضاقت ذات اليد ، الاحتياج للناس غلبةٌ للدين و قهرٌ للرجال، ألقى الرجل على زوجته يمين الطلاق لتستفيد من معاش والدها المتوفي ، على الأقل ضَمِنَ المسجون أن ابنتاه ستعفان اليد عن سؤال الناس .

 
أسرار البيوت تمنعني من التعريف بصاحب هذه القصة ، ألقاه العسكر في غيابات العقرب أسوأ سجون مصر قسوةً و قهرا للإنسانية ، 3 دقائق كل شهر هي الوقت المسموح له باللقاء، يبث مشاعر اللهفة لإنسانة ارتبط بها، “أحبك”، قالها رغم تلصص المخبرين على همس شفاه متلعثمة بالحياء و اللوعة، تصر “الدولة” على التفريق بينهما في سنوات الشباب .. حتى متى ؟ الله أعلم !

اصبري يا أختي ، مكملين إن شاء الله” ، و هل تعني دموعي أنني غير صابرة ؟ تتساءل الفتاة في دهشة، و هي لم تكد تستفق من صدمة أن شريك حياتها طلقها

لكن الفتاة المسكينة ” هتلاقيها منين و لا منين”؟ ، شماتة الضباط الواقفين يتفحصون في طابور الزيارة وجوه الحريم من زوجات و بنات المسجونين؟  أم رشوة العساكر ليدخلوا للزوج و الأخ المعتقل شربة ماء؟  كل ذلك تجاوزته الأم و الزوجة ، لكن ما هدَّ حيلها و قسم ظهرها هو عتاب المحبين! .
“اصبري يا أختي ، مكملين إن شاء الله” ، و هل تعني دموعي أنني غير صابرة ؟ تتساءل الفتاة في دهشة، و هي لم تكد تستفق من صدمة أن شريك حياتها طلقها من وراء حجاب السجن قبل ثوان .


لقد شرخت أحداث مصر في صدورنا شيئا لا يلتئم ، شخصيا أجدني أكابر على مشاعر طبيعية تنتاب كل مكلوم على أخ  و أب و صديق، لماذا لا أطلق العنان لمشاعر الحزن تتهادى بشكل طبيعي، لماذا لا تنساب الدموع شفاءً لما في الصدور؟ لماذا يقسو المجتمع على الأرملة التي حرمت زوجا برصاص ابن بلده؟

 ألم يبك رسول الله على إبراهيم و قال إنا لفراقك لمحزونون ، أم تراه لم يقل :  “أما حمزة فلا بواكي له” ؟ لماذا يجب علينا أن نربط الجرح بالملح و نقاوم ، هل ما حدث في بلدنا على هوله لا يستحق أن تفرغ المشاعر في حزن؟ كيف تكبت مشاعر الألم قبل مواصلة المسير في مقاومة الانقلاب الدموي الذي سود وجه مصر، و فرق بين أهلها،  وأورثهم فقرا و غرقا و قتَّلهم تقتيلا .

لماذا لا أطلق العنان لمشاعر الحزن تتهادى بشكل طبيعي، لماذا لا تنساب الدموع شفاءً لما في الصدور؟ لماذا يقسو المجتمع على الأرملة التي حرمت زوجا برصاص ابن بلده؟

 نحن جميعا متعبون، صدمتنا في أهالينا من العوام فضلا عن النخب المتواطئة بالفطرة ليست بسيطة ، هذا الشعب الذي أتى بجلاده ليكوي ظهره تناسى إلا فيما ندر أن نفوسا قد أزهقت، كانت يوما ما تطبب الجرح و ترسم البسمة و تواسي الفقير و المعدم .


لقد رأيت بأم عيني بعد 30 يونيو بلطجية يوسعون صديقا لي ضربا في أوسع شوارع مدينتي طنطا لمجرد أنه “إخوان”، و حين أنكر المسكين انتماءه تحت سيوفهم و هي تنهش جسده، و احتار القوم هل يجهزون عليه أم يذروه يتخبط في دمه ، جاء أحدهم من أقصى المدينة يسعى : ” ما تسيبوهوش .. ده إخوان .. و ربنا المعبود كان بيدي الشهرية لأمي كل شهر” .

حادثة أخرى لطبيب نساء بلغ عنه جاره الذي يسكن تحته، هرب الطبيب إلى خارج مصر و فوجئ برسالة من الجار المخبر ” ازيك يا دكتور محمد ، المدام  حامل و انت اللي ولدت عيالي الثلاثة، لو سمحت ترجع علشان تشرف على الولادة، آسف لما حصل لك ، كلها شهرين في الحبس و هتطلع تعيش مرة أخرى حياة طبيعية ” ..!

أسمع كل يوم عن حالات من المقهورين يعانون من ضغوط نفسية ، عيادات الصحة النفسية تمتلئ بالنساء و الأطفال و الرجال، يدخلونها في صمت و يتلمسون الستر .

عيادات الصحة النفسية تمتلئ بالنساء و الأطفال و الرجال، يدخلونها في صمت و يتلمسون الستر ، أعرف حالات أخرى لشباب أدمنوا المخدرات، ولاذوا بالسجائر يدخنونها بعيدا عن أهاليهم حين لم يجدوا متنفسا لضائقة صدورهم

أعرف حالات أخرى لشباب أدمنوا المخدرات، ولاذوا بالسجائر يدخنونها بعيدا عن أهاليهم حين لم يجدوا متنفسا لضائقة صدورهم غير أعقابها الصفراء.
و المتابع للعديد من حسابات رافضي الانقلاب على السوشيال ميديا يجد شططا في الفكر و انفعالا على الأصدقاء من ذات الفريق المضاد للعسكر، لم يكونوا كذلك ، شيبتهم الأحداث فلاذوا بنظريات المؤامرة و التشكك تفسيرا لقيامات صغرى يرونها كل يوم .

 
نحن لم نعالج من صدمتنا، لم نأخذ حظنا في رحلة داخل الذات المنهكة، المحطمة، لم نسترق الحزن خلال المسير، لا يقدر أحدنا أن ينظر في عيون أطفال كتبت عليهم الغربة لأن السيسي صادر حقهم في العيش بين مجتمع متسامح.

 لا أعرف كيف أشرح لابني حين يرى على الشاشات صراخ الطفل رمضان ” اصحي يا ماما بالله عليكي”، ثم يشاهد أقران رمضان يغنون “تسلم الأيادي”، لماذا لا يغني معهم رمضان؟ لماذا قتلوا أمه في مجزرة رابعة؟، لا أملك الإجابة،  ولا شجاعة البكاء حين عجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي المقتول في سيناء، من البدو أو الجند مع أنني لست قاتلهم .


لا تحبسوا الدموع في المآقي بحجة الصبر و المصابرة .. إذ لا تعارض
البكاء شفاء الروح ، فيه العليل يرتاح .
يبدو أننا كلنا نحتاج إلى كربلاء جماعية، رغم إنكاري لما في هذا الطقس عند الشيعة من بدع و مخالفات شرعية ، لكن لدى كل منا حسين لم يبكيه، و لن يرتاح أو يأخذ بثأره .. حتى يرثيه.

علي زلط

 صحفي ومدون مصري

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها