عبد السلام هارون .. أُوتي من علوم الأدب ما أوتي قارون من المال

كان الأستاذ عبد السلام هارون (1909- 1988) واحدا من نوادر النوابغ الذين يقدر زملاؤهم الأكبر منهم في السن عملهم ولا يستنكفون أن يكونوا تالين لهم ، وعلى سبيل المثال فقد كان الدكتور محمد طه الحاجري الذي يكبره بعام  ١٩٠٨- ١٩٩٤ علما في دراسات الجاحظ إلى جواره  وتاليا له ،  وكذلك كان ممن نالوا عضوية المجمع اللغوي بعده مجموعة من الأساتذة الذين تخرجوا قبله ، بل لقد كان من هؤلاء اثنان من أساتذة النحو الدرعميين السابقين عليه في التخرج وهما الاستاذان على السباعي ١٨٩٣- ١٩٧٣ وعلى النجدي ناصف ١٨٩٨ -١٩٨٣ وكان الأستاذ هارون هو الذي استقبلهما عند انتخابهما عضوين في المجمع   وكذلك زميل دفعته الشاعر محمد عبد الغني حسن  ١٩٠٧- ١٩٨٥، والدكتور علي عبد الواحد وافي .
لا أزال أذكر بالفخر أن الأستاذ عبد السلام هارون كان واحدًا من الذين شرفوني بمنحي جائزة مجمع اللغة العربية في الأدب 1978، وكان لتقديره المضاعف والجهير لي ولبحثي مذاق خاص لا أزال أحس بتشريفه الباعث على النشوة، رغم مضي أكثر من أربعين عامًا.
عبد السلام هارون قبل هذا كله هو شيخ المحققين في العصر الحديث، وهو أستاذ لامع من أساتذة النحو والصرف كما أنه أستاذ لامع لتاريخ الأدب العربي، وتتوازى أستاذيتاه على حد سواء، وإن كان يقال إن شهرته في التحقيق قد فاقت شهرته في النحو ، كما أن شهرته في النحو قد فاقت شهرته في الأدب. لكن الأهم من هذا أن الأستاذ هارون كان هو العالم الفذ الذي قام باستيعاب التراث وعمل على تجويد منهجه في البحث والدرس والتدريس والمحاضرة والتأليف والتحقيق، وقد تميز بكل هذا حتى أصبح علمًا من أعلام دراسة الأدب العربي، والنحو العربي فضلًا عن عمادته للمحققين.
كان الأستاذ عبد السلام هارون في جيله والجيل التالي له بمثابة علامة  الجودة الأصلية في مجال تحقيق التراث، فكان اسمه على النص المحقق يعطي النص المنشور مكانة تفوق أي مكانة يحصل عليها من اسم دار النشر، أو الهيئة الراعية للتحقيق، أو الجائزة التي يحصل عليها التحقيق. وقد ظل اسم عبد السلام هارون نجمًا في مجال تحقيق النصوص العربية على مدى أكثر من ستين عامًا متصلة ظل فيها لامعًا عاليًا متمتعًا بالتقدير والثقة والاحترام والتوقير على نحو لم يتح لأحد قبله. وربما كان هذا بمثابة تفوق بارز لم يحظ به إلا النادرون، لكن الأبرز منه أن الأستاذ هارون بدأ نشر تحقيقاته حين كان لا يزال طالبا (في المرحلة الثانوية) في المدرسة التجهيزية لدار العلوم (1925)؛ حيث نشر متن أبي شجاع بضبطه وتصحيحه ومراجعته ، وهو واحد من المتون المشهورة في الفقه الشافعي. وظل اسم الأستاذ هارون يتمتع بهذه المكانة الرفيعة حتى بعد أن توفي.
ومن الطريف أن نسبه يتصل بأعظم محققي التراث فهو ابن عمة الشيخ أحمد شاكر ١٨٩٢-١٩٨٩ والأستاذ محمود شاكر ١٩٠٩-١٩٩٧ ، كما أن ابنه المهندس نبيل تزوج من ابنة السيخ محمد محيي الدين عبد الحميد ١٩٠٠-١٩٧٢ أما جده لوالدته فهو الشيخ الجزيري . 

أستاذية كرسي النحو 

شغل الأستاذ عبد السلام هارون كرسي أستاذية النحو عن جدارة واستحقاق، ونشر بحوثا في النحو العربي من قبيل كتابه الأساليب الإنشائية في النحو العربي، وحقق من أمهات كتب النحو ما جعله أهلا للتفوق الساحق في أستاذية هذا العلم، لكن اتساع مجال تحقيقاته ساعده على صياغة الأسس العلمية لكثير من الدراسات اللغوية والأدبية الحديثة.
كان الأستاذ عبد السلام هارون يملك من ذكاء الأستاذ المؤسس وفطرة الباحث المتميز، ما مكنه من صناعة مكانة نادرة لنفسه في جامعات الإسكندرية والقاهرة والكويت على حد سواء ، وكان منتبها إلى أنه يمثل رأس مدرسة في التحقيق والنشر، وأن عليه واجب التأصيل والتنظير لهذه المدرسة، ولهذا فإننا نراه ينشر دراسات نظرية في أصول علم التحقيق، وقد عرف له بحثه المطول عن تحقيق النصوص ونشرها، الذي استعرض فيه أسرار أدائه وتفوقه، وهو صاحب الاعتزاز المعروف بعلمه وجهده، ذلك أنه كان قد نشر وهو لا يزال طالبًا بدار العلوم من موسوعة خزانة الأدب للبغدادي خمسة أجزاء.
وليس أدل على خصوبة عمل الأستاذ عبد السلام هارون من أن كثيرين من معاصريه قد بنوا على عمله وأضافوا إليه منذ مرحلة مبكرة، ومن هؤلاء كما أشرنا في مطلع حديثنا أستاذ قدير ولد في العام السابق على ميلاده و هو الأستاذ الدكتور محمد طه الحاجري، الذي عُني عناية خاصة ومعروفة بآثار الجاحظ وتخصص فيها، وأنتج ما أنتجه من علم غزير مستفيدًا من جهد الأستاذ هارون ومضيفًا إليه.
وعلى المستوى الجامعي كان الأستاذ عبد السلام هارون من مؤسسي جامعة الإسكندرية؛ إذ اختير مدرسًا بكلية الآداب جامعة الإسكندرية عام 1945، وكان هذا بعد تخرجه من دار العلوم بثلاث عشرة سنة، وكان في ذلك الوقت يعمل مدرسًا بالتعليم الابتدائي (القديم)، لكن اسمه كان ذائع الصيت بما حقق وأبدى من آراء علمية وسياسية.

نشأته الأولى 

ولد الأستاذ عبد السلام هارون في الإسكندرية (1909) حيث كان والده الشيخ محمد هارون وكيلا لمشيخة علماء الإسكندرية، وكان والده مهتما بالبحث والدرس والتصنيف، وقد ألف تلخيص الدروس الأولية في السيرة المحمدية في كتابين، وكتابا آخر بعنوان: دروس في آداب اللغة العربية، بالإضافة إلى مراجعته لكتاب تيسير الوصول إلى جامع الأصول لابن الربيع الشيباني والتعليق عليه وتصحيحه. كما كان لأخيه الأكبر محمد أبو الفضل هارون اهتمام بالعلم والتأليف، وقد اشتهر عنه الحرص على جمع الكتب ومطالعتها. أما عمه الشيخ أحمد هارون، فقد كان وكيلا للأزهر الشريف ومديرًا للمعاهد الدينية.
قضى الأستاذ عبد السلام هارون السنوات الثلاث الأولى من عمره في الإسكندرية (ومن الطريف فيما بعد أن حياته الأكاديمية كأستاذ للجامعة بدأت أيضًا في الإسكندرية)، ثم انتقل إلى طنطا مع أسرته (1912)، حيث اختير والده وكيلا للمعهد الأحمدي، وظل بها ثلاث سنوات، نقل بعدها إلى القاهرة (1915)، حيث عين والده رئيسًا للتفتيش القضائي الشرعي بوزارة العدل، وقد حفظ القرآن الكريم وهو في العاشرة من عمره، كما التحق بالتعليم الابتدائي المدني (1918-1921)، ثم انتقل إلى التعليم الأزهري ثلاث سنوات أخرى، تنقل خلالها بين طلب العلم وتحصيله في جامع إبراهيم أغا في حي القلعة، وجامع المرداني بالدرب الأحمر، وجامع المؤيد قرب باب زويلة. 
والتحق الأستاذ عبد السلام هارون بدار العلوم وتخرج فيها (1932)، أي في الثالثة والعشرين من عمره، وهي سن مبكرة جدًّا بالنسبة لأقرانه، وقد تخرج معه في هذه الدفعة أستاذ الأدب الشهير الأستاذ عمر الدسوقي، والأستاذ محمد عبد الغني حسن، الذي لحق به في عضوية مجمع اللغة العربية في عام 1978.
عمل الأستاذ عبد السلام هارون في بداية حياته الوظيفية في وزارة المعارف وتنقل في أقاليم مصر، شأنه شأن كل معلمي ذلك الزمان، بادئًا مدرسًا في مدرسة فارسكور الابتدائية (1932-1935)، ومن حسن حظي أنها هي المدرسة التي صرت أنا تلميذا فيها بعد عقود، ودرس فيها تلميذان نابغان صارا أيضا عضوين في مجمع اللغة العربية وهما الدكتور عبد الحليم منتصر (ولد عام 1908 قبل الأستاذ هارون بعام)، والدكتور محمود حافظ (1912 – 2011)، والذي صار رئيسًا لمجمع اللغة العربية. ثم انتقل منها إلى مدرسة ميت غمر الابتدائية لمدة سنة (1936)، ومنها إلى مدرسة العطارين بالإسكندرية وظل يعمل بها حتى سنة 1941، ثم انتقل بعدها إلى مدرسة الظاهر الابتدائية بالقاهرة وظل بها حتى سنة 1945.
ومن الطريف أن فترة عمله كمدرس في التعليم العام ظلت كلها في التعليم الابتدائي، مع أنه كان في وسعه ومن مقامه أن يعمل بالتعليم الثانوي، لكن المفارقة أنه ظل يعمل في التعليم الابتدائي حتى اختير للانتقال للتعليم الجامعي مباشرة، حيث انتدب للتدريس في كلية آداب الإسكندرية (1945)، وسرعان ما عين مدرسًا في هذه الكلية (1945)، فأستاذا مساعدا (1951)، فأستاذا بدار العلوم (1957)، ورئيسا لقسم الدراسات النحوية والصرفية (1959). وقد اختير (1966) للمشاركة في إنشاء جامعة الكويت؛ حيث أسس ورأس قسم اللغة العربية وآدابها.

عضويته في اللجان و المجامع العلمية

 
تمتع الأستاذ عبد السلام هارون طيلة حياته بعضوية كثير من الهيئات العلمية والأدبية، وعلى سبيل المثال فقد شارك في أنشطة كثيرة من اللجان الجامعية والقومية والتربوية. وقد بدأ نشاطه في هذا المجال حين اختير مبكرًا عضوًا في لجنة إحياء ذكري أبي العلاء (1943)، وكان الذي اختاره هو الدكتور طه حسين ليكون عضوًا مع الأساتذة: مصطفى السقا، وعبد الرحيم محمود، وإبراهيم الإبياري، وحامد عبد المجيد، وقد أخرجت هذه اللجنة في أول عهدها مجلدًا ضخمًا بعنوان: “تعريف القدماء بأبي العلاء”، أعقبته بخمسة مجلدات من شروح ديوان “سقط الزند”.
ولم يكن حين اختير عضوا في هذه اللجنة قد اختير بعد مدرسًا في الجامعة، لكن تحقيقاته كانت كفيلة بدعم اختياره وتفضيله على أي منافس آخر  ، ومن باب الإنصاف فإني أحب أن اذكر أن أستاذنا الدكتور محمود ذهني  أستاذ الأدب العربي و نائب رئيس جامعة الزقازيق كان حريصا طيلة حياته على بقاء الأستاذ وحامد عبد المجيد عضو هذه اللجنة أستاذا زائرا في جامعة الزقازيق .
وقد انتخب الأستاذ عبد السلام هارون في أثناء إعارته للخارج (1969) عضوًا بمجمع اللغة العربية، وكان هذا دليلًا على ثقة المجمعيين به، وتفرده بتقديرهم الفائق، وقد انتخب لشغل الكرسي التاسع والعشرين الذي خلا بوفاة الأستاذ محمد فريد أبو حديد (1967)، وأصبح أمينا عامًا للمجمع (1984) خلفا للدكتور محمد مهدي علام الذي خلف الدكتور أحمد عمار في منصب نائب رئيس المجمع، وقد أسند مجمع اللغة العربية إليه الإشراف على طبع المعجم الوسيط، فقام بهذا العمل خير قيام. كما اختير (1984) عضوًا في مجمع اللغة العربية بعمان.
وبالإضافة إلى جهود الأستاذ عبد السلام هارون في الحياة العلمية، فقد كان له دور بارز في إنشاء جمعية الشبان المسلمين.

صاحب محاولة للتأليف في مذاهب التحقيق

 
يعد الأستاذ هارون عند بعض مؤرخي الآداب العربية صاحب أول محاولة للتأليف في مذهب تحقيق النصوص، وقد نشر كتابه تحقيق النصوص ونشرها (1950)، وفيه أبان عن فهم منهجي ممتاز للتحقيق، وإن كان الأستاذ السيد أحمد صقر قد نشر في هذا الموضوع كتابًا أسبق من كتاب هارون، لكنه لم يحظ بشهرة كتاب هارون، وهي شهرة تعود في جزء كبير منها إلى شخصية هارون وإنتاجه ونشاطه وأستاذيته، إلا أن كتاب الأستاذ السيد أحمد صقر لم يلق ما يستحق من التقدير، لأنه كان بعيدًا عن المناصب الأكاديمية والجامعية التي تجلب الوجاهة الاجتماعية. 
وكان الأستاذ هارون شأنه (شأن زميله في قسم النحو بدار العلوم وفي المجمع اللغوي الأستاذ علي السباعي) من الذين عنوا بنشر تعليقاتهم واستدراكاتهم على معجم العربية الكبير لسان العرب، ولكنه كان أسبق في بلورة هذه التعليقات في كتاب بعنوان تحقيقات وتنبيهات في معجم لسان العرب.

لا تخلو قائمة مراجع تراثية من كتاب من تحقيقه 

يرجع إلى الأستاذ عبد السلام هارون الفضل الأوفى في تحقيق عدد كبير جدًّا من كتب التراث العربي، وتعترف له الأجيال بفضله وسبقه وغزارة إنتاجه، وعلى سبيل التذكير بالفضل، فإن الدكتور محمود الطناحي يقرر أنه لم يخط أحد في التراث سطرًا إلا ولعبد السلام هارون عليه منة، ولا تكاد تجد قائمة مراجع تراثية إلا وفيها كتاب من تحقيق عبد السلام هارون.

جوائزه 

كان الأستاذ هارون يعتز ببدايته فيقول إن ” أوَّل كتاب أخرجَتْه المطبعة مقرونًا باسم عبدالسلام هارون هو كتاب “متن الغاية والتقريب”؛ للقاضي أبي شجاع أحمد بن الحسين بن أحمد الأصفهاني، وذلك في سنة 1345هـ، 1925.وكُتِب عليه :ضبط وتصحيح ومراجعة الشيخ عبدالسلام محمد هارون،  كنتُ طالبًا صغيرًا بالأزهر، بالسنة الثالثة الأوليَّة، في سنِّ السادسة عشرة، وذلك قبل أنْ أتوجَّه بدراستي إلى دار العلوم.
وقد توج الأستاذ عبد السلام هارون جهده المشرف والدؤوب في هذا المجال (منذ مرحلة مبكرة) بنوال جائزة مجمع اللغة العربية في تحقيق التراث (1950) عن تحقيقه لكتابي الحيوان ومجالس ثعلب، وقد نال عن تحقيق هذين الكتابين الجائزة الأولى للنشر والتحقيق من المجمع، وكانت هذه أول جائزة يمنحها المجمع في هذا المجال، على حين حصل على الجائزة الثانية في ذلك العام كل من الدكتورة بنت الشاطئ، والدكتور محمد طه الحاجري، وكان هذا بمثابة اعتراف كبير ومبكر بقيمة عمل الأستاذ عبد السلام هارون.
وفي أخريات حياته توجت جهود الأستاذ عبد السلام هارون بمنحه جائزة الملك فيصل (198١)، وان كانت بعض المصدر تذكر تواريخ أخرى من باب الخطأ ، وكانت الجائزة في ذلك العام عن المؤلفات والدواوين في القرنين الثاني والثالث الهجريين و كان اول أقرانه حصولا على هذه الجائزة الكبرى في دراسات تحقيق التراث ، وإن كان الأستاذان عبد القادر القط واحسان عباس قد حصلا على الجائزة قبله حيث كان موضوعها الدراسات التي تناولت الشعر العربي المعاصر ، ثم كان هو ثالث الحاصلين عليها ، وقد تلاه صنواه الدكتور شوقي ضيف في ١٩٨٣ والأستاذ محمود شاكر في ١٩٨٤ . ومن الطريف أن هذين الصنوين كانا قد سبقاه إلى جائزة الدولة التقديرية في مصر ، وإن كان هو قد سبق كليهما إلى عضوية مجمع اللغة العربية . 
كذلك منح اسم الأستاذ عبد السلام هارون (في يونيو 1988) جائزة الدولة التقديرية في الآداب عن عام 1987، فكان من الذين منحوا الجائزة بعد وفاتهم، كالدكتور عبده الراجحي.

حديث الأستاذ هارون عن نبوغه

 
تحدث الأستاذ عبد السلام هارون للأستاذ يوسف نوفل في حوار نشر بمجلة الفيصل تحت عنوان: “حضارتنا وإحياء التراث”، في العدد 54 من المجلة، أكتوبر ١٩٨١ عن المؤثِّرات التي صنعت مجده فقال  إنه يسجِّل للتاريخ أنَّ الفضل الأوَّل فيه يَرجِع إلى عامل الوراثة، وإلى شقيقه الأكبر الأستاذ محمد أبو الفضل محمد هارون :
” فقد وُلِدتُ في بيتٍ كلُّ أهله مُؤلِّفون: جدِّي – المغفور له – الشيخ هارون عبدالرازق شيخ رواق الصعايدة بالأزهر، خرَجتُ إلى الدنيا ووجَدتُ اسمه مقرونًا بكتابٍ كان مشهورًا جدًّا في ذلك الوقت، وما زال إلى الآن معروفًا مُتداوَلاً، وهو كتاب: “عنوان الظَّرف في علم الصَّرف”، ومقرونًا بكتابٍ آخر هو كتاب: “المبادئ النافعة في تصحيح المطالعة”، وهو كتابٌ نحوي موجز أتمنَّى أنْ يُعاد طبعُه لطلاب المدارس، وكتابٍ آخَر يُدعَى: “عنوان النجابة في قواعد الكتابة”، وآخَر يُدعَى: “حسن الصياغة في علوم البلاغة”، وممَّا هو مُسجَّل معروفٌ أنَّه قامَ بالإشراف على التحرير الكامل لكتاب: “الخطط التوفيقية”؛ للعالم المؤرِّخ علي باشا مبارك”.
” ووالدي الشيخ محمد هارون الذي كان قاضيًا لقُضاة السُّودان، أُقِر أنَّ مؤلفاته “تلخيص الدروس الأولية في السيرة المحمدية”، في جزأين كان مُقرَّرًا علينا في السنتين الأولى والثانية الأُوليَيْن في جميع المعاهد الدينيَّة، وكنتُ أحفظهما عن ظهْر قلب، وله أيضًا كتاب: “دروس في آداب اللغة العربية”.
“وربما استَرعَى نظري بعدما شدَوْت أني وجدتُ له تحقيقًا سابقًا لأوان التحقيق، وهو تحقيق كتاب: “تيسير الوصول إلى جامع الأصول”؛ لابن أبي الديبع الشيباني.
“أمَّا أخي الأكبر محمد أبو الفضل، فقد قام بصُنع حاشية لكتاب جدي: “عنوان الظَّرف”.
” هذا هو الفضل الرُّوحي الذي أوحى إلَيَّ أنْ أقتَدِي بهؤلاء القوم. أمَّا الفضل العلمي في انغِماسي في هذا التيَّار، فهو فضلُ أخي “محمد أبو الفضل” الذي كانت له مكتبةٌ في المنزل جمَع فيها مختارات جيِّدة من الكتب الأصيلة التي كانت تَظهَر في ذلك الوقت، وكان يُشجِّعني على قراءتها، ويَحمِلني على حضور مجلسه للمُذاكَرة مع إخوانه، وأذكُر أنَّه كان قد رصَد لي مكافأة (ساعة جيب) أحصُل عليها إذا أتمَمْتُ حفظَ المعلقات، وفي تلك السن المبكِّرة حفظت المعلقات السبع، مع شيءٍ من شروحها في نحو ثلاثة أشهر فقط حفظًا جيِّدًا، وهذا فتَح أمامي بابَ الوُلُوع بالأدب وباللغة، وباب التفكير في التأليف ، وكان هذا دأبَ مُعاصِريه، وشأن التعليم الذي درَج فيه آنَذاك”
 :::::::::::::::::::::::::::::::::
” كان التُّراث العربي بمختَلف فروعه في جيلنا الذي عِشنَا فيه موضع اهتمام؛ يتمثَّل في التُّراث الديني الذي كانت كتبه مُيسَّرة لنا، وكذلك التُّراث الأدبي واللغوي، الذي كان لكلٍّ منَّا قدرٌ كبيرٌ من الاطِّلاع عليه، وتمثله حفظًا أو قراءة أو رواية، وكذلك التراث التاريخي الذي كنَّا نملأ به المجالس مُذاكَرةً ومُساجَلةً، والتُّراث القصصي متمثِّلاً في “قَصص عنترة بن شداد”، و”سيف بن ذي يزن”، و”ألف ليلة وليلة”، و”إعلام الناس بما وقع للبرامكة مع بني العباس”؛ ونحوها، هذا مُضافًا إليه دواوين فُحُول الشعراء: كأبي تمام، والبحتري، والمتنبي، وأبي العلاء، ولم يكن في جيلنا مَن لا يحفظ للحريري أكثر من مقامة، وكانت الكتب المدرسيَّة حافلة بعيون التُّراث الأصيل نستَظهِر منه جِياد القصص، وحِسان الخُطَب”.
“وإذا ذهبت في المقابلة بين جيلنا الذي نشَأنا فيه، وبين هذا الجيل الذي يَعِيشه أبناؤنا، وجَدنا الفرق شاسعًا بين شعورنا بكياننا العزيز الوثيق، وكيان بعض أبنائنا الذين انفصَلُوا عن المُتعة بالتُّراث العربي، مُتمثِّلاً في ضروبه المختلفة”.

وروى الأستاذ عبد السلام هارون أنه  تتَلمَذ على الأستاذ محب الدين الخطيب، وهو من كِبار المحقِّقين في عصره، واشتَرَك معه في تحقيق كتاب “أدب الكاتب”؛ لابن قتيبة، فيقول: «وقد اشتَركتُ معه في إخراجه وتتَلمَذتُ عليه في ذلك الوقت، حينما كنتُ طالبًا في تجهيزيَّة دار العلوم، فهو كان أستاذي الأوَّل في ذلك – مَدَّ الله في حياته”.

الأستاذ هارون يشير إلى فضل الإذاعة عليه 

أشار الأستاذ عبد السلام هارون في حواره مع مجلة الفيصل (أكتوبر ١٩٨١ )إلى جهود الإذاعة في عصره في الحِفاظ على لغة الضاد والنُّهوض بها: 
“ولسنا نَنسَى الأحاديثَ الأسبوعيَّة التي كانت الإذاعة تَحرِص عليها، وتَدعُو كبارَ رجال المجمع القُدامَى، من أمثال: طه حسين، والعقاد، والمازني، وأحمد أمين، ومنصور فهمي، وعبد الوهاب خلاف، وعبدالعزيز البشري، وغيرهم وغيرهم، كما لا يَزال في أسماعنا صدَى صوت الأستاذ علي الجارم في جهوده اللغويَّة التي كان يبغي من ورائها تنقية الفصحى من أوضار العاميَّة، واللغة الدخيلة …. كما نصغي إلى برنامج (صفحات التُّراث العربي) مرَّة في كل أسبوع… وكذلك إلى برنامج (دراسات عربية)».
الكتب التي حققها 
على سبيل الإجمال، فإن تحقيقات الأستاذ عبد السلام هارون تربو على 115 كتابًا في فروع كثيرة من فروع العلوم العربية والإسلامية.
وربما كان من حق القارئ أن نقدم له نبذات سريعة عن أشهر الكتب التي حققها الأستاذ عبد السلام هارون:
 ● الحيوان في 8 مجلدات كبيرة، وقد وضع له فهارس تفصيلية دقيقة بلغ عددها 16 فهرسا، وقد استغرق في تحقيقه وتصحيحه وإخراجه إخراجا علميا أكثر من عشر سنوات.
 ●  البيان والتبيين في 4 مجلدات، وبهذا اكتمل لعبد السلام هارون تحقيق كتابي  الجاحظ الشهيرين.
 ●  حقق مجموع رسائل الجاحظ في 4 مجلدات تشمل 45 كتابا ورسالة. 
 ●  حقق كتابي الجاحظ العثمانية، والبرصان والعرجان.
ومن الإنصاف أن نشير إلى حقيقة أن اهتمام عبد السلام هارون المبكر بالجاحظ وآثاره قد اتضح في مقالات قيمة نشرها في مجلة الثقافة.
وإذا جاز أن تؤسس جامعاتنا في المستقبل كرسيا للدراسات الجاحظية على نحو المعمول به في جامعات العالم، فإن دراسات هارون وتحقيقاته في الجاحظية ستكشف عن استحقاقه لأن يسمى مثل هذا الكرسي باسمه، فيكون كما هو شائع في الجامعات العالمية كرسي هارون للدراسات الجاحظية.
مراجع اللغة 
كذلك بدأ عبد السلام هارون تحقيق تهذيب اللغة للأزهري مع آخرين، وكان هذا الكتاب أول كتاب نشر في سلسلة ذخائر العرب التي أصدرتها دار المعارف، وقد حقق الجزأين الأول والتاسع من تهذيب اللغة.
بالإضافة إلى هذا فقد حقق:

 ● معجم مقاييس اللغة لابن فارس في 6 مجلدات. 
 ●  شرح ديوان الحماسة، للمرزوقي، بالاشتراك مع الأستاذ أحمد أمين، في 4 مجلدات.
 ●  كتاب سيبويه في 5 مجلدات. 
 ●  الاستقامة من جزءين. 
 ●  الجنون، لأبي أحمد العسكري.
 ●  مجالس أبي العباس أحمد بن يحيي ثعلب، مجلدان، وقد طبع بمطبعة المعارف. 
 ●  مجالس العلماء، للزجاجي.
 ●   أدب الكاتب، لابن قتيبة.
 ●   وقعة صفين، لنصر بن مزاحم. 
 ●   من نُسب إلى أمه من الشعراء، لابن حبيب.. ورسالة التلميذ، للبغدادي. وقد نشر هذين العملين بمجلة المقتطف.
 ●   الرسالة المصرية، لأبي الصلت أمية بن عبد العزيز الأندلسي.
 ●   جمهرة أنساب العرب، لابن حزم.
 ●   الاشتقاق، لابن دريد.
 ●   شرح القصائد السبع الطوال، لأبي بكر بن الأنباري.

جهده في مراجع الأدب 

كذلك نجح عبد السلام هارون في تحقيق الموسوعة الشهيرة خزانة الأدب للبغدادي (14 مجلدًا)، ومن الطريف أنه، كان كما أشرنا من قبل، قد بدأ في تحقيق خزانة الأدب وهو طالب بتجهيزية دار العلوم.
وقد حقق الأستاذ هارون أيضًا الجزء الخامس عشر من كتاب الأغاني للأصبهاني. 
وتبنى عبد السلام هارون مشروع نشر نوادر المخطوطات، وهو مشروع علمي يرمي إلى إحياء نفائس صغار المخطوطات، وقد ظهرت منه ثمانية أجزاء اشتملت على 23 كتابًا ورسالة.
أما الجهود الجماعية التي شارك فيها الأستاذ هارون فكثيرة:
 ●   حقق بالاشتراك مع الشيخ أحمد شاكر: إصلاح المنطق لابن السكيت (1949)، والأصمعيات للأصمعي (1955)، والمفضليات للضبي (1952).
 ●   حقق بالاشتراك مع الأستاذ أحمد عبد الغفور عطار: تهذيب الصحاح للزنجاني في أربعة أجزاء.
مؤلفاته
وبالإضافة إلى هذا الجهد الكبير في التحقيق، فقد كانت للأستاذ عبد السلام هارون مؤلفات قيمة منها:
•    الألف المختارة من صحيح البخاري في عشرة أجزاء.
•    التراث العربي.
•    معجم الشواهد العربية في جزأين.
•    الميسر والأزلام.
•    قواعد الاملاء
•    الأساليب الإنشائية في النحو العربي.
تنقية التراث وتقديمه بصورة عصرية 
وللأستاذ عبد السلام هارون عدد من المؤلفات القيمة التي بذل فيها جهدًا في تنقية التراث وتقديمه بصورة عصرية:
 ●   تهذيب إحياء علوم الدين للغزالي في جزأين.
 ●  تهذيب سيرة ابن هشام في جزأين.
 ●  فهارس معجم تهذيب اللغة للأزهري.
 ●  تحقيقات وتنبيهات في معجم لسان العرب. 
 ●  وله كتاب طريف بعنوان شرح همزيات أبي تمام، وفيه تناول جميع ما قاله أبو تمام من الشعر في قافية الهمزة، بشرح مسهب وضع لمدرسي اللغة العربية المتسابقين في امتحان الترقي الوظيفي في المدارس الثانوية.

تقدير أنداده له 

قال الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد عن الأستاذ هارون يوم استقباله عضوًا في مجمع اللغة العربية:
” ليس الأستاذ هارون جديدا على هذا المجمع الموقر، فقد دخل إليه من أبواب عديدة، وهو إذ يدخل اليوم من باب العضوية بناء على انتخاب جماعة من الزملاء الأماجد يعُطي حقه الذي استوجبه بعمله الدائب وجهده المتصل” .
وفي هذه الكلمة تحدث الأستاذ محمد محيي الدين عبد الحميد عن أسرة الأستاذ عبد السلام هارون بتقدير بالغ فقال:
” فجده أبو أبيه هو المغفور له الشيخ هارون بن عبد الرازق عضو جماعة كبار العلماء (كان اسمها هيئة كبار العلماء) في الأزهر منذ أنشئت في عام 1911 الميلادي، وأبوه هو المغفور له الشيخ محمد بن هارون الذي كان يتولى عند وفاته منصب رئيس التفتيش الشرعي في وزارة العدل (الحقانية يومئذ)، وعمه هو المغفور له الشيخ أحمد بن هارون، الذي يرجع إليه الفضل الأكبر في إصلاح المحاكم الشرعية، ووضع لوائحها وفقا للمنهج الذي كان يدعو إليه المرحومان الشيخ محمد عبده والشيخ عبد الكريم بن سلمان، وقد توفي وهو يتولى منصب وكيل الأزهر ومدير المعاهد الدينية،  وجده الآخر هو المغفور له الشيخ محمود بن رضوان الجزيري عضو المحكمة العليا الشرعية، وهو أعلى منصب كان يتولاه المصريون في المحاكم الشرعية يومئذ؛ وكان الشيخ الجزيري عضوًا في جماعة كبار العلماء منذ بدايتها.
” وكان والده قد استدعي من السودان حيث كان يتولى منصب قاضي القضاة هناك، ليحل محل الشيخ محمد شاكر شيخ علماء الإسكندرية. ولكن طول الإجراءات مكنت للخديو أن يعدل عما كان ينتويه فعينه نائبا لشيخ العلماء، ثم عين الشيخ محمد أبي الفضل الجيزاوي شيخًا للعلماء، وعين الشيخ محمد بن هارون وكيلا للشيخ،  ثم حدث جفاء بين القائمين على إدارة الجامع الأحمدي في طنطا الذي سمي فيما بعد معهد طنطا، فاختار أولو الأمر الشيخ محمد بن هارون وكيلا لشيخ علماء الجامع الأحمدي، ليرم بهدوئه و وقاره ما تفتق من النظام.
” وبعد لأي ضاق الشيخ الهادئ الوقور بصنيع أولي الأمر بالمعاهد الدينية فرغب إليهم في أن ينقلوه إلى نظارة الحقانية، وكان قد اشترط لنفسه حين رغبوا في تعيينه بالإسكندرية أن يعاد إلى المنصب الذي يليق به متى أراد ذلك، فنقل إلى منصب رئيس التفتيش الشرعي، فاستقرت به الحياة في القاهرة، حيث كان يقيم أبوه وأخوه وأصهاره.
” وكان الشيخ هارون بن عبد الرازق لا يرضى من أبنائه إلا أن يعلموا أولادهم في الأزهر، فكان لزاما أن يهيأ الأستاذ عبد السلام لتلقي العلم في الأزهر، فتعلم التعليم الأولي وحفظ القرآن ثم التحق بالأزهر.
 وفاته وتكريمه 
توفي الأستاذ عبد السلام هارون في 16 أبريل 1988، وكان، كما ذكرنا، من القلائل الذين منح اسمهم بعد وفاتهم جائزة الدولة التقديرية في الآداب، إذ كان مرشحا لها قبل أن يدركه القدر. وبعد وفاته أصدرت جامعة الكويت كتابًا عنه بعنوان: الأستاذ عبد السلام هارون معلماً ومؤلفاً ومحققاً. 

 

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها